غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في غرفةٍ ضيّقة بإحدى عمارات القاهرة القديمة في منطقة "بولاق"، تجلس أماني محمد (38 عامًا) تحدّق بصمت في صورة لابنتها التي رحلت بعد صراع طويل مع المرض. تقلّب شاشة هاتفها فتمرّ صور أطفالها الذين يعيشون تحت الإبادة، تنفجر بالبكاء قائلة: "لم أستطع إنقاذ مرام ولم أستطع إنقاذ إخوانها العالقين تحت الإبادة".
بدأت قصّة أماني حينما تمكنت من مغادرة قطاع غزة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2023م، بتحويلةٍ طبية لإنقاذ طفلتها المصابة بسرطان الدم، ولم تكن تعلم أن الرحلة التي بدأت بالأمل ستنتهي بالفقد.
تخبرنا أنها خرجت من غزة وهي تعد طفلتها أنها ستعود متعافية، لكنها رحلت بعد عام من العلاج في مستشفى 57357، في آخر جرعة كيماوي لها.
تسكت أماني لحظة لتمسح دموعها، وتتابع بصوت متهدج: "دفنتها هنا غريبة، وأنا غريبة. لم أستطع حتى أن أدفنها في غزة. قبلنا بالموت، لكننا لم نتأقلم مع هذه الظروف ولن نتأقلم. كيف سأعود من دونها؟ كيف دفنتها ولم يودعها إخوتها؟ كم موت نعيش بينما يقف العالم متفرجًا علينا؟".
"لم أستطع حتى أن أدفنها في غزة. قبلنا بالموت، لكننا لم نتأقلم مع هذه الظروف ولن نتأقلم. كيف سأعود من دونها؟ كيف دفنتها ولم يودعها إخوتها؟".
تعيش أماني اليوم وحيدة في القاهرة، بعدما تركت زوجها وخمسة من أطفالها في غزة تحت القصف والجوع والنزوح طيلة نحو عامين، تشير إلى صور أطفالها على الهاتف: "كل مكالمة منهم كأنها سكين في قلبي. ابني الكبير عمره 19 سنة، كان يستعد للثانوية العامة، لكن الحرب سرقت حلمه. صار يبدو كأنه في الثلاثين. الجوع والخوف جعلا الأطفال وكأنهم مسنين في غزة".
تروي أن أبناءها طوال فترة الحرب كانوا يعيشون على ما توفره التكيات الخيرية، والمساعدات القليلة التي تصل من بعض المنظمات الدولية، يجدون الطعام أحيانًا، وفي أيام كثيرة ينامون جائعين، يغامرون بحياتهم من أجل كيس من الطحين، يقنصهم الاحتلال وهم على الطريق، ونجاتهم تكون مجرّد صدفة ربما لن تتم في مرّة أخرى.
عن حياتها في القاهرة، فإنها لا تقل وجعًا عن حياة أهلها بغزة، رغم التعاطف الشعبي الكبير. تسكن في شقة صغيرة تصف إيجارها بـ"النار"، كان العلاج مرتفع الثمن ولم يكن كله متوفرًا ضمن التغطية المالية التي حصلت عليها، كذلك الطعام، "وفي مصر كل شيء هنا يحتاج إلى المال، تحديدًا لامرأة مجبرة على السفر لأجل العلاج، لا معيل لها ولا دخل شهري" تقول.
"أعيش على ما تبقّى معي من مال ساعدتني به بعض المؤسسات، وأحيانًا أستدين. كنت أطبخ لابنتي واليوم أطبخ لنفسي وأبكي كل مرة أمد فيها يدي إلى الطعام".
وتضيف: "أعيش على ما تبقّى معي من مال ساعدتني به بعض المؤسسات، وأحيانًا أستدين. كنت أطبخ لابنتي وجبات خفيفة في المستشفى، واليوم أطبخ لنفسي وأبكي كل مرة أمد فيها يدي إلى الطعام".
تتابع: "الأسعار تزيد بين فترة وأخرى، والحصول على كيلو من اللحم بالقاهرة صار حلمًا لامرأة بوضعي، حتى الفاكهة صارت رفاهية".
تنتظر أماني بعد إعلان وقف إطلاق النار بغزة، فتح معبر رفح البري، لتعود فورًا إلى غزة، فهناك ينتظرها أولادها. تضيف: "كلنا تعبنا.. من القصف، من الغربة، من الغلاء، من الانتظار. لكن ما في أم بتنسى أولادها.. ولا فلسطينية بتنسى غزة، سيبقى جرحي مفتوحًا وقلبي معلقًا بين جثمان طفلتي هنا وحياة أطفالي هناك بغزة".
بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن أكثر من 8000 مريض وجريح في غزة بحاجة إلى الإخلاء الطبي، بينهم 6000 مصاب حرب و2000 مريض بأمراض مزمنة.
لكن منذ بدء الحرب لم يُسمح إلا لنحو 1200 مريض بالمغادرة، رفقة 1000 مرافق، في حين ينتظر أكثر من 2000 شخص دورهم للعلاج في الخارج.
ورغم خروج بعضهم إلى مصر، وبعضهم إلى دول أخرى، فإنهم يرون بأن السفر وإن كان بغرض العلاج لم يكن راحة، بل امتدادًا للمعاناة بأشكال جديدة.
ليست وحدها من تعيش المأساة، ففي حالة ثانية قابلت "نوى" الصحفية عطاف العبسي التي تبلغ من العمر 52 عامًا. غادرت غزة إلى مصر في 17 مارس/آذار 2024 بتحويلة طبية، بعدما قُصف مكان نزوحها في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، فأُصيبت هي وبناتها الثلاث بإصابات خطيرة.
تتحدث عطاف كيف أن القصف دمّر حياتها في لحظة واحدة، فقد أصيبت بقطع في العصب الطرفي بقدمها، بينما تعرّضت ابنتها غدير لإصابة في الرأس والوجه أثرت على سمعها وبصرها، وأُصيبت ابنتها الصغرى سيرين في الرأس والبطن والفخذ، كما أنها فقدت طفلتها الوحيدة في القصف.
أصيبت عطاف بقطع في العصب الطرفي بقدمها، بينما تعرّضت ابنتها غدير لإصابة في الرأس والوجه أثرت على سمعها وبصرها، وأُصيبت ابنتها الصغرى سيرين في الرأس والبطن والفخذ.
خرجت الصحفية إلى مصر للعلاج مع بناتها، إحداهن كانت حاملًا، فيما بقي ابنها الوحيد إسلام في غزة مع زوجته وطفليه.
تضيف بحرقة: "خرجنا على نفقتنا الخاصة، ومع ارتفاع الأسعار في مصر أصبح تأمين الإيجار والطعام تحديًا يوميًا، خصوصًا أنني منفصلة وأتحمل مسؤولية أسرتي وحدي".
أجرت عطاف عملية لقدَمها، وأجرت لابنتها غدير عدة عمليات في الرأس والوجه، لكن ابنتها ما زالت تعاني من ضعف في الرؤية وثقب في طبلة الأذن يحتاج إلى ترميم، أما ابنها في غزة، فقد عاش فصولًا من المعاناة التي تصفها بأنها "أشد من الموت".
تتحدث بأن إسلام نزح أكثر من عشر مرات بحثًا عن الأمان، لكن لا أمان في غزة. كان ابنه المصاب يعاني من حصوات في الكلى والمثانة والتهابات شديدة بسبب تلوث المياه.
وتتابع: "كل معاناة ابني كانت معاناتي. كنت أطبخ طعامًا وأتمنى لو أن إسلام معي. حين آكل لقمة أتذكر جوعه وجوع أهل غزة، فأبكي بحرقة".
في يناير/كانون الثاني 2025، وصلت زوجة ابنها وطفلاه إلى مصر بتحويلة علاج لطفلهما محمود، ليقيموا معها في بيتها، فيما بقي إسلام وحده في غزة.
ازداد العبء المادي على عطاف لكنها في الوقت ذاته تقول إن نزوح ابنها مجددًا جنوبي القطاع أرهقها أكثر من قبل، مؤكدة أن كل ما ترجوه هو انتهاء الحرب والعودة إلى غزة مهما كان العيش فيها مؤلمًا.
"زوجي لا يزال في غزة، يقيم بخيمة في دير البلح، لا يستطيع الحركة بسبب إصابته بالغضروف. لا دواء، ولا طعام صحي، ولا ظروف إنسانية. كل يوم أسمع صوته منهكًا فأشعر أنني عاجزة".
التفاصيل ذاتها تعيشها إيمان حسونة التي تبلغ من العمر 40 عامًا، فقد غادرت غزة في الثامن من نيسان/أبريل لعام 2024م، بتحويلة طبية لعلاج ابنتها لمار المصابة بمتلازمة ويليام وتعاني مشاكل في القلب.
توضح أنها خرجت ومعها أطفالها الخمسة، يقيمون اليوم في القاهرة قرب المستشفيات التي تتابع فيها علاج ابنتها، مضيفة: "زوجي لا يزال في غزة، يقيم بخيمة في دير البلح، لا يستطيع الحركة بسبب إصابته بالغضروف. لا دواء، ولا طعام صحي، ولا ظروف إنسانية. كل يوم أسمع صوته منهكًا فأشعر أنني عاجزة، لا أستطيع فعل شيء".
وبالعودة إلى حالها، تخبرنا أنها بالكاد تستطيع تدبير أمور أطفالها واحتياجاتهم، تسكن في شقة صغيرة بمشاركة عائلة أخرى، وتصف: "يعيش أطفالي أزمة نفسية صعبة، أحاول التخفيف عنهم بأنهم ربما أفضل حالًا من الناس التي تعيش تحت الإبادة، لكنهم يجيبونني بأنهم كانوا يفضلون البقاء هناك بجانب أبيهم على أن يتواجدوا هنا بين القلق والخوف والحاجة".
تحاول الأم أن تبدو قوية أمام أطفالها، لكنها تنهار كلما تذكّرت ما فقدته قائلة: "لم يعد لدي سوى أختين، بعد أن فقدت خمسة من إخوتي مع عائلاتهم في القصف. كل يوم نعيش مرارة الفقد من جديد".
تضيف بصوتٍ مثقل باليأس والخوف: "لا أخفيك أنني لم أعد أريد الرجوع إلى غزة. لا أريد لأطفالي أن يعيشوا كوابيس القصف من جديد. نريد فقط أن نعيش بسلام، دون خوف أو حرب أو فزع. يكفي ما فقدناه من أهلٍ وذكرياتٍ وبيوتٍ هُدمت على أصحابها".
تسكت لحظة، ثم تختتم كلامها بكلمات تختصر المأساة: "غزة تسكننا مهما ابتعدنا، لكننا لم نعد نحتمل أن نموت كل يوم ونحن أحياء."