شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الاربعاء 22 اكتوبر 2025م04:09 بتوقيت القدس

خمسون شهيدة.. خمسون حكاية..

صحافيات تحت النار.. أمهات وسط جحيم "الإبادة"!

12 اكتوبر 2025 - 09:58

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

عامان من تغطية الإبادة في قطاع غزة، لم تتوقف خلالهما الصحافيات عن أداء واجبهنّ المهني، رغم ما حملته تلك التغطيات من فقدٍ وخوفٍ وجوعٍ ووجعٍ لا ينتهي. كنّ في قلب الميدان يواجهن الموت، فيما كانت عيونهنّ معلّقة بأطفالٍ ينتظرون عودتهنّ بخوفٍ وأمل.

خمسون صحافية استشهدت حتى نهاية سبتمبر 2025م، بينهن من استُهدفن مع عائلاتهنّ، ومن ارتقين وهنّ يحملن كاميراتهنّ وأقلامهنّ، بين ركامٍ ورصاصٍ وغبارٍ كثيف. لكل واحدة منهنّ قصة، وحلم، وأشخاصٌ تتعلّق حياتهم بها، لكنّ الموت الذي لم يستثنِ أحدًا لم يوقف الصحافيات عن أداء رسالتهنّ، ونقل صوت الفلسطيني الجائع، الجريح، الفاقد، الذي صار شاهدًا على وجعٍ يتكرّر كل يوم.

لم تكن الصحافيات بمعزلٍ عن الجحيم ذاته الذي يعيشه سكّان غزة. عانين من النزوح، والفقد، والمرض، والخوف، والقلق، وانقطاع المياه، وفقدان مقوّمات الحياة. فقدن بيوتهنّ، وممتلكاتهنّ الصغيرة التي كانت تعني الاستقرار والدفء. عشن حياة لا تُشبههنّ؛ أشعلن النار للطهو على الحطب، خبزن المعكرونة على رماد الخوف، وامتلأت أيديهنّ بالسواد والشحبار. تغيّر لون بشرتهنّ تحت لهيب الشمس وفي حر الخيام، ومشين على أقدامهنّ مسافات طويلة في دروبٍ محفوفة بالموت، وصولاً إلى قصةٍ أو حدثٍ يُوثّق وجعًا جديدًا. تنقّلن بوسائل بدائية، واحتملن ما لا يُحتمل، في محاولةٍ للموازنة بين أمومتهنّ وعملهنّ الصحافي.

على مدار عامين كاملين لم تتوقف الصحافية يافا أبو عكر عن التغطية. لم تعرف راحة، ولم تخلع الدرع أو الخوذة، تناضل بكلمة وصورة، جنبًا إلى جنب مع زملائها الصحفيين. تودّع أطفالها كل صباح وتخرج، يرافقها قلقٌ لا يفارقها ولا يفارقهم. تقول لـ"نوى": "بينما أحمل أدواتي وأنطلق إلى عملي، تتزاحم في رأسي عشرات المخاوف. أعيش منذ عامين ذات الحيرة التي لا تنتهي، بين واجبي المهني ومسؤولياتي كأمٍّ ونازحة".

قبل إغلاق معبر رفح، اضطرت يافا لاتخاذ قرارٍ قاسٍ بسفر طفلها أنس، البالغ من العمر أربع سنوات، برفقة والدتها مريضة السرطان إلى مصر، بينما بقيت مع طفلتيها منى وأسيل في غزة، في حين كان والدها يتلقى العلاج في الضفة الغربية. منذ ذلك الوقت، لم يعرف قلبها الراحة. يعيش أنس بعيدًا في الغربة، فيما تكبر شقيقتاه في غياب الأمان.. لم تعرف "منى" حتى اللحظة شقيقها الذي افترقت عنه وهي في عمر السبعة أشهر فقط.

تقول يافا: "أصعب ما أواجهه هو لحظة مغادرتي المنزل إلى العمل، أترك صغيرتي بين حماتي وأختي، وأحمل قلباً مثقلاً بالذنب والقلق"، مردفة بحرقة: "ليس سهلًا أن أترك بناتي في ظروف نزوحٍ وإبادةٍ وانعدام أمان، لكن عملي يفرض عليّ اختيارات تفوق قدرة أي أم".

وجعها يتوزع بين مسؤولية مهنية لا مهرب منها، وأمومة تبحث عن طمأنينةٍ مفقودة. تصف الأمومة في زمن الإبادة بأنها "أمومة بطعم العلقم".

"لم أستطع أن أحقق توازنًا بين أمومتي وعملي، خصوصًا مع موجات النزوح الجديدة، التي زادت من العبء وزرعت داخلي حيرةً لا تهدأ".

وتتابع: "صعب أن أرى طفلتي منى اليوم وقد قاربت على عمر الثلاث سنوات، بينما لا تعرف شقيقها أنس الذي كبر بعيدًا عنا. هذه التفاصيل لا تُنسى. لم أستطع أن أحقق توازنًا بين أمومتي وعملي، خصوصًا مع موجات النزوح الجديدة، التي زادت من العبء وزرعت داخلي حيرةً لا تهدأ".

تضيف: "تنتابني الهواجس والأفكار طوال الوقت، ليس سهلًا أن أترك أطفالي في ظروفٍ كهذه، لكن واجبي يحتم عليّ خياراتٍ صعبة".

لم يكن سهلًا على يافا أن ترى مشاهد وداع الشهداء كل يوم؛ أمهاتٍ يصرخن، وأطفال يبحثون عن أمهاتهم بين الركام. تقول: "كنت أعيش شعور الأمهات الثكالى وأنا أراهنّ يودعن أبناءهنّ، وشعور الطفل الذي فقد كل عائلته. أصبت بالاكتئاب جراء ذلك، كنت أبكي بصمتٍ وحرقة، على الشهداء، وعلى نفسي، وأطفالي، وعائلتي، وإن كنت أحاول أن أبدو قوية طوال الوقت".

وتزيد: "نزحت أكثر من عشر مرات منذ بدء الإبادة، كان آخرها قبل أيام من الشمال إلى الجنوب. في كل مرة كنا نُجبر على تجاوز الموقف والاستمرار، رغم أن تجاوز الألم لم يعد ممكنًا".

"كنت أوثّق أحلام الشهداء، أسماءهم، أمنياتهم. أردت أن أقول إن شهداءنا ليسوا أرقامًا، لكل منهم قصة وحلم تم اغتياله".

وتشير إلى أن التنقل أصبح خلال فترةٍ معينة تحديًا في حد ذاته: "ليس من السهل أن تتوقف سيارة أجرة وأنا أرتدي الدرع أو شارة الصحافة، في ظل استهداف الصحفيين. البعض يحاولون الابتعاد عنا خوفًا".

فقدت يافا أكثر من خمسين فردًا من عائلتها خلال الإبادة. تذكر صدمة القصف الذي طال منزلًا مجاورًا لمنزلها، حين تناثر الركام داخل شقتها بينما كانت وحدها مع طفلتيها، تقول: "أمتار قليلة كانت تفصلنا عن الموت، وتكرر ذلك أكثر من مرة".

ما يمنحها القوة للاستمرار أنها تؤمن بأنها صاحبة قضية. تحارب بصورةٍ تنشرها، أو كلمةٍ تكتبها، أو رسالةٍ تقولها. "كنت أوثّق أحلام الشهداء، أسماءهم، أمنياتهم. أردت أن أقول إن شهداءنا ليسوا أرقامًا، لكل منهم قصة وحلم تم اغتياله"، تقول يافا.

وترى أن الصحافيين والصحافيات في غزة لم يدّخروا جهدًا خلال عامين من الإبادة، إذ وثّقوا للعالم كل تفاصيل المقتلة: الجوع، المرض، استهداف المستشفيات، تدمير المنازل، واستشهاد الزملاء والزميلات. "خاطرنا بأرواحنا لتستمر التغطية، لكن العالم خذلنا جميعًا".

تتذكر كيف كان الصحافيون في مستشفى ناصر بخانيونس، جنوبي القطاع، عائلة واحدة، وكيف صار فقد أحدهم وجعًا مضاعفًا. "من أصعب اللحظات استهداف خيمة الصحافيين التي استشهد فيها محمد منصور حرقًا أمام الكاميرات، واستشهاد الصديقة مريم أبو دقة التي رحلت وهي تؤدي واجبها، وتركت خلفها وحيدها غيث".

تجربة مشابهة عايشتها مراسلة تلفزيون فلسطين بيداء معمر، التي خاضت تجربة الحمل والولادة خلال الإبادة، بينما كانت أمًا لطفلين لا يتوقفان عن السؤال: "متى ستنتهي الحرب؟ هل سنسافر؟ هل سنعود لحياتنا القديمة؟".

تقول لـ"نوى": "ربما أصعب ما واجهته خلال الإبادة هو تساؤلات أطفالي التي لا تنتهي. كنت أجيبهم بأن الغد سيكون أجمل، لكنهم بعد عامين صاروا أكثر إدراكًا أن الواقع قاسٍ، رغم احتفاظهم بأمل صغير في الحياة".

وترى بيداء أنه ليس سهلًا على أي صحافية وأمّ أن توازن بين تغطية الأحداث وخوفها على أطفالها. تضيف: "حين يكون الشهداء والمصابون من الأطفال، تتضاعف خشيتي أن يكون أطفالي في ذات الموقف".

تحاول أن تشغلهم بأنشطة منزلية، وتتواصل معهم باستمرار أثناء عملها. "أخصص لهم وقتًا قدر الإمكان، وأحاول السيطرة على مخاوفي حتى لا تنتقل إليهم، وأطمئنهم بأني سأكون بخير"، تقول.

تصف بيداء تجربة الأمومة خلال الإبادة بأنها من أصعب التجارب، إذ أصيبت بالكبد الوبائي (الريقان) لشهرين كاملين أثناء الحمل، وكانت تخشى أن يتأثر الجنين، في وقتٍ شحّت فيه احتياجات الحمل والولادة، "كنت أخاف على طفلتي التي وُلدت في الإبادة من سوء التغذية، فالأطفال الذين يولدون في الحرب مهددون بالموت لنقص الحليب والرعاية. بدلاً من أن تكون الولادة فرحًا، صارت وجعًا، وكابوسًا لا ينتهي للأم التي تعيش في بيئة غير آمنة".

وتضيف: "تحضير وجبة ساخنة لأطفالي بعد يوم عمل طويل بدا في بعض الأيام حلمًا بعيد المنال. الطهو على النار تحدٍ كبير. أبسط الأكلات تحتاج لساعات من الجهد. أعمل وأفكر في التغطيات القادمة، وكيف سأظهر بمظهرٍ لائق في أوضاع غير منطقية. أتنقل على كارةٍ أو توكتوك، وأفتقد أدوات السلامة المهنية".

"كنت في المستشفى الميداني أثناء وقوع مجزرة قريبة، وكانت الاتصالات مقطوعة، عاش أطفالي وعائلتي ساعاتٍ من الخوف. حين عُدتُ متأخرة، امتزجت دموعهم بين فرح النجاة وخوف الفقد.

تخبرنا بيداء أن التفكير لم يتوقف في عقلها منذ اليوم الأول للإبادة: "من هو التالي؟ هل سنكون رقمًا جديدًا في قائمة الشهداء؟ نخشى على حياتنا في كل مكان، لكننا لا نتوقف عن التغطية".

تتذكر أحد المواقف التي لا تُنسى: "كنت في المستشفى الميداني أثناء وقوع مجزرة قريبة، وكانت الاتصالات مقطوعة، عاش أطفالي وعائلتي ساعاتٍ من الخوف. حين عُدتُ متأخرة، امتزجت دموعهم بين فرح النجاة وخوف الفقد. نجوتُ هذه المرة، لكن من يدري ماذا يحمل الغد؟".

عامان من العدوان المستمر على غزة سجّلا واحدة من أكثر الفترات دموية في تاريخ الصحافة المعاصرة. قال الاتحاد الدولي للصحفيين إن "غزة أصبحت أكبر مقبرة للصحافيين في التاريخ الحديث".

خمسون صحافية فلسطينية حملن أقلامهنّ وعدساتهنّ وأصواتهنّ، ووقفن في وجه الصمت، فكتبن الحقيقة بدمائهنّ. من مريم أبو دقة التي ودّعت الحياة وكاميرتها في يدها، إلى فاطمة حسونة التي آمنت بأن الكلمة مقاومة، مروراً بـ دعاء شرف، ووفاء العديني، ونور قنديل، وعلا قاسم، وحنان عقيلان، ونرمين قواس، وهبة العبادلة، وغيرهنّ من شهيدات الحقيقة اللواتي اغتلن وهنّ ينقلن وجع غزة إلى العالم.

خلف كل اسمٍ وجهٌ وحلم، وصوتٌ حاول أن يقول للعالم ما يعيشه شعبٌ يُباد أمام الكاميرات. حملن الكاميرا، وواجهن الموت بشجاعةٍ نادرة، لإيمانهنّ أن الصورة قد تُنقذ روحًا، وأن الحقيقة قد تُحدث فرقًا. بدونهنّ، تُدفن الحكايات تحت الركام، كما تُدفن المدن التي أبادها الاحتلال.

كاريكاتـــــير