غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
مع تفاقم الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة وتكدّس عشرات آلاف العائلات في مخيمات الإيواء، ازداد اعتماد السكان على التبرعات الخارجية التي يُرسلها أفراد أو جمعيات صغيرة من الخارج.
هذه التبرعات التي يتم إرسالها إلى مبادرين محليين، تلعب دورًا كبيرًا في تخفيف معاناة النزوح والحرب، ولكن تدور حولها تساؤلات هامة حول ما يصل من أموال، وكيفية توزيعه، وتحديد المستحقين له في ظل عدم وجود أي مؤسسة رقابية، أو جهة موحدة لإدارة عمليات التوزيع، الأمر الذي يبرز مخاوف حقيقية من تفشي الفساد والمحسوبية، ويدفع نحو المطالبة بمأسسة العمل الإغاثي؛ لحماية التبرعات، وضمان عدالة التوزيع.
توزيع عشوائي
في مخيم الصمود بحي النصر غربي مدينة غزة، كانت الحاجة أم قيس العريني (61 عامًا) منشغلة في تهدئة حفيدها الصغير الذي كان يئن بسبب عدم توفر الغذاء واشتداد المجاعة التي تفرضها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ مطلع أيار/ مارس الماضي.
تقول العريني التي نزحت مع عائلتها من حي الزيتون شرقي المدينة: "نرى يوميًا مبادرين يدخلون مخيمنا ويوزعون على خيام دون غيرها. نحن هنا منذ شهرين، لم نحصل على طرد غذائي ولا على فراش. وعندما سألنا، قالوا إن التوزيع يتم وفق قوائم بحوزة المبادر بالتنسيق مع مشرف المخيم. لكن من وَضَع هذه القوائم؟ ولماذا لم يأتِ أحد لأخذ أسمائنا؟ هل نحن أقل شأنًا من غيرنا؟".
أما الشاب جهاد غانم (33 عامًا)، وهو أب لأربعة أطفال، فهو نازح من جباليا شمالي القطاع، ويعيش في مخيم عشوائي في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة. يروي بمرارة: "هناك مبادر من أقربائنا، تصله تبرعات من الولايات المتحدة الأمريكية عبر حوالات مالية. نراه يشتري بعض الخضروات ويوزع جزءًا منها هنا وهناك، ولكن الكمية الموزعة لا تتناسب مع ما يعلنه على صفحته في فيسبوك. يقول إنه وزع على مئة عائلة، ولكن الحقيقة لا تتجاوز العشرين. أما الباقي، فلا نعلم إلى أين يذهب".
"رأيته بعيني يشتري وقودًا لمولده الكهربائي ويقول إن ذلك من أموال التبرعات، لأنه بحاجة إلى تشغيل المولد لتوزيع المساعدات. ولكن ما علاقة التبرعات بمصروفات المولد؟".
ويتابع: "رأيته بعيني يشتري وقودًا لمولده الكهربائي ويقول إن ذلك من أموال التبرعات، لأنه بحاجة إلى تشغيل المولد لتوزيع المساعدات. ولكن ما علاقة التبرعات بمصروفات المولد؟ وإذا كانت هذه هي طريقة إدارة الأموال، فمعنى ذلك أن التبرعات تصل لكننا لا نرى منها إلا القليل".
جارته السيدة ميسون مخيمر (41 عامًا)، وهي أم لخمسة أطفال ونازحة من بلدة بيت حانون شمالي القطاع. تقول: "نسمع كثيرًا عن أشخاص يحولون الأموال من الخارج، وعن آخرين يتطوعون لتوزيع المساعدات. لكن الواقع مختلف تمامًا. ابنتي ذات الثلاثة أشهر بحاجة ماسة إلى الحليب الصناعي، ولا أملك ثمنه. وكلما سألنا عن المساعدات، يقال لنا: قريبًا سيتم تلبية احتياجات كل أسرة. ولكن المساعدات دائمًا تصل إلى نفس العائلات. يبدو أن من لا يملك واسطة أو صلة بالمبادر، لا يحصل على شيء".
في ظل غياب جهة مركزية لإدارة المخيمات، تبقى هذه الأموال تتنقل بشكل غير منظم، وتخضع لاجتهادات ومزاجية الأفراد، وتفتقر لأبسط معايير الشفافية.
هذه الشهادات ليست فردية ولا معزولة، بل تعبّر عن ظاهرة متنامية خلقت فجوة ثقة واسعة بين النازحين والمبادرات الفردية، بل وحتى بين المجتمع المحلي والمتبرعين في الخارج، الذين غالبًا ما لا يعلمون بمصير أموالهم.
وفي ظل غياب جهة مركزية لإدارة المخيمات، تبقى هذه الأموال تتنقل بشكل غير منظم، وتخضع لاجتهادات ومزاجية الأفراد، وتفتقر لأبسط معايير الشفافية، ما يجعل الفئات الأشد احتياجًا آخر من يستفيد منها.
الضمير هو الحَكم
وفي ظل انعدام الإشراف الرسمي، تظهر شهادات من بعض المبادرين أنفسهم لتكشف واقعًا معقدًا يتداخل فيه العمل الإنساني بالاجتهادات الشخصية، وتغيب عنه المعايير والمؤسسات.
"أبو سائد" (اسم رمزي)، شاب في الثلاثينات من عمره، يعمل صانع محتوى على منصة "انستجرام"، وقد أصبح وجهًا معروفًا لدى عشرات المتبرعين العرب في أوروبا والخليج.
يقول أبو سائد: "كل شيء بدأ عندما بدأت أنشر قصص النازحين من خلال فيديوهات قصيرة على إنستجرام. بعض المتابعين من الخارج بدأوا يراسلونني، يسألون كيف يمكنهم المساعدة. مع الوقت، أصبحت تصلني حوالات من ويسترن يونيون، أحيانًا بـ100 دولار، وأحيانًا بـ1000 دولار أو أكثر. لا يوجد أي جهة تتواصل معي أو تطلب معرفة أين صرفت المال. أنا أقرر كيف أوزعه، ومتى؟".
ويُضيف: "بصراحة، لا توجد أي جهة رقابية، لا من الحكومة، ولا من الجمعيات. أنا فقط أعمل حسب ضميري وأخلاقي وما تمليه عليّ مبادئ ديني. أعلم أن هناك أشخاصًا يستغلون هذه النقطة، ويأخذون جزءًا من الأموال لأنفسهم أو لأقاربهم. لكنني لا أفعل ذلك".
ويُتابع أبو سائد: "أنا أُعدّ تقريرًا كاملًا للمتبرع بعد كل حملة توزيع. أرسل له صورًا، وفيديوهات، وتفاصيل مكتوبة بكل شيء: عدد العائلات، المواد التي اشتريتها، المبلغ المصروف بدقة. حتى أنني أرسل له إيصالات الشراء حين تكون متاحة. هذا يعزز الثقة ويجعل المتبرع يعود مرة ثانية".
ورغم التزامه الذاتي، لا يُخفي "أبو سائد" واقع التجاوزات التي يرتكبها بعض المبادرين الآخرين: "القلة فقط من المبادرين من يقدمون تقارير صادقة للمتبرعين. الأغلبية إما لا يقدمون شيئًا، أو يرسلون صورًا قديمة، أو يركّبون مشاهد توزيع وهمية. بعضهم يقول إنه وزع على 100 عائلة، بينما لم يصل إلا لـ15. هناك تلاعب كبير، ولا أحد يحاسب".
"عندما يشعر المتبرع أن أمواله لا تصل فعلًا للفقراء، سيتوقف عن إرسالها. وهذا يضر بالجميع".
ويُشير إلى خطورة هذا الأمر على العمل الإغاثي نفسه: "عندما يشعر المتبرع أن أمواله لا تصل فعلًا للفقراء، سيتوقف عن إرسالها. وهذا يضر بالجميع. وجود جهة رسمية، مثل دائرة تنسق عملنا وتدقق في التقارير، سيكون أفضل لنا نحن أيضا. لأنه سيحمينا من الاتهامات، ويعزز مصداقيتنا".
شهادة "أبو سائد" تسلّط الضوء على البُعد الأخلاقي الحاسم في إدارة التبرعات. لكن في بيئة بلا لوائح ولا مرجعية، يبقى الضمير الشخصي هو المعيار الوحيد، في وقت لا يحتمل فيه الفقراء أن تُترك حقوقهم رهينة لاجتهاد الأفراد.
"المجال أصبح مُربحًا!"
"أبو أحمد" (اسم رمزي)، شاب نازح من شمالي قطاع غزة، يعمل منذ بداية الحرب على جمع التبرعات لصالح النازحين من خلال مجموعات "واتساب" وصفحات على موقع "فيسبوك". يعترف بصراحة أن هذا العمل في هذا المجال بات يحمل شبهة التجارة أكثر من كونه عملًا إنسانيًا صرفًا.
ويضيف أبو أحمد: "لا أنكر أنني جمعت تبرعات ولكني وزعتها بما يرضي الله، ولم آخذ إلا أجر العاملين عليها، الذي حددته مسبقًا مع المتبرع. ولكن هناك من بات يعدُّ التبرعات مصدرًا لتحقيق الربح وجني الأموال. المجال أصبح مُربحًا لمن لا يتقي الله".
وعن آلية التحويل، يوضح: "أنا شخصيًا تصلني الأموال عبر شركة التحويل الدولية مثل فودافون كاش وويسترن يونيون، غالبًا من فلسطينيين في أوروبا أو دول الخليج. لا أحد يسألني: لمن وزعت؟ أو كيف أنفقت الأموال؟ أُعدّ توثيقًا بسيطًا. أحيانًا أصور بعض المشاهد أثناء التوزيع فأنا لا أحبذ تصوير المستفيدين وهم يتلقون المساعدات، وأرى في ذلك نوعًا من الإذلال لهم. لكن هناك من يصنع فيديوهات وهمية، بتوزيع تمثيلي، بينما تذهب بقية الأموال إلى حساباتهم الشخصية".
ويشير أبو أحمد إلى أن بعض المبادرين يوزعون التبرعات وفقًا لعلاقاتهم الشخصية لا لحاجة الناس، قائلًا: "رأيت أحدهم يوزع ثلاثين بطانية للنازحين، عشرين منها ذهبت لعائلة زوجته وأقربائه. وعندما سألناه عن الأمر، قال: "هؤلاء محتاجون كغيرهم! المشكلة أن لا جهة تُحاسب، ولا أحد يسأله: من منحك الحق في هذا التوزيع؟".
غياب الرقابة يفشي الفساد
ويحذّر صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، من أن غياب الرقابة والإشراف من أي جهات حكومية أو أهلية على عمليات جمع وتوزيع التبرعات، سواء كانت نقدية أو عينية، يُعدُّ ثغرة قانونية خطيرة تُمهّد لوقوع انتهاكات جسيمة، سواء في صورة إساءة استخدام المال العام أو حرمان المستحقين من حقوقهم.
ويقول عبد العاطي: "ما يحدث حاليًا من تلقي أفراد أو مجموعات ناشطة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتحويلات مالية من الخارج، دون أي إشراف أو توثيق رسمي، يُعدُّ خرقًا لمبدأ الشفافية، ويُعرّض المال العام لخطر الاستغلال والتلاعب".
"القانون الفلسطيني لا يمنع التبرع ولا العمل التطوعي، بل يشجعه، لكنه يُلزم أي جهة أو فرد يتلقى تمويلًا موجّهًا للصالح العام، بضرورة الخضوع لرقابة ومحاسبة قانونية".
ويؤكد أن القانون الفلسطيني لا يمنع التبرع ولا العمل التطوعي، بل يشجعه، لكنه يُلزم أي جهة أو فرد يتلقى تمويلًا موجّهًا للصالح العام، بضرورة الخضوع لرقابة ومحاسبة قانونية، مضيفًا: "وفق القانون، يُعدّ أي مال موجَّه للمنفعة العامة مالًا عامًا، حتى لو لم يكن مصدره خزينة الدولة. وبالتالي، فإن التصرف فيه من دون ضوابط قانونية أو محاسبة يُصنّف ضمن شبهة الفساد المالي".
ودعا عبد العاطي إلى تشكيل هيئة وطنية لإدارة المخيمات والإغاثة، تضم في عضويتها ممثلي المؤسسات الحكومية والأهلية، ومندوبين عن المتبرعين والمانحين، وتكون وظيفتها توثيق الأموال والمساعدات، وتنظيم توزيعها وفق معايير واضحة، تضمن العدالة والشفافية".
"رافعة مهمة.. ولكن"
وأكد وائل بعلوشة، مدير مكتب ائتلاف أمان في قطاع غزة، بدوره، من أن المبادرات المجتمعية والتبرعات الشعبية تُعد من الأفعال الإيجابية المهمة في ظل الأزمات المتفاقمة التي تواجه المجتمعات، لا سيما خلال فترات الحرب والحصار.
وقال بعلوشة: إن "دور المبادرين يصبح حيويًا في مثل هذه الظروف، حيث يسدون فجوات كبيرة ويستجيبون لاحتياجات فورية يعجز عنها أحيانًا العمل المؤسسي، لكن ذلك لا يعفي من أهمية تنظيم وضبط تدفق المساعدات وأموال التبرعات التي تمر عبرهم".
"الضبط لا يمكن أن يتحقق دون "تنسيق وتشبيك فعّالين بين المبادرين أنفسهم من جهة، والمؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني من جهة أخرى".
وأوضح أن هذا الضبط لا يمكن أن يتحقق دون "تنسيق وتشبيك فعّالين بين المبادرين أنفسهم من جهة، والمؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني من جهة أخرى، وذلك لتجنب الإشكاليات التقليدية مثل الازدواجية في تقديم الخدمة، وتكرار استفادة نفس الفئات على حساب فئات أخرى أكثر هشاشة، وضعف التنوع في نوعية المساعدات".
وشدد بعلوشة على ضرورة تدفق البيانات والمعلومات المالية بشفافية، داعيًا إلى "نشر تقارير مالية وتقارير إنجاز واضحة عبر المنصات المختلفة لضمان حق الجمهور في المعرفة، وترسيخ ثقة المجتمع في العمل الأهلي والمجتمعي".
وحول دور المؤسسات الأهلية، أشار إلى أنها مطالبة بـ"بناء قدرات المبادرين في إدارة المنح المالية، ورفع وعيهم بمبادئ الشفافية والمساءلة والنزاهة، وتوجيه أنظارهم نحو الفئات الأكثر هشاشة التي قد لا تصلها المساعدات بشكل كافٍ".
ودعا إلى "تأسيس أجسام تنسيقية جامعة بين المبادرين لتوحيد الجهود وتعظيم الأثر، وتوسيع قاعدة الفئات المستفيدة من الدعم".