شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الاربعاء 22 اكتوبر 2025م03:51 بتوقيت القدس

44 بالمئة من مجمل الآثار متضررة..

تاريخٌ مسحته "النار" بغزة.. ردمت الذاكرة وأبادت "الأثر"!

12 اكتوبر 2025 - 10:23

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"شعرت أن الصاروخ قصف قلبي، ثلاثون عامًا من العمل في جمع آلاف القطع الأثرية تحوّلت في لحظةٍ إلى ركام".
بهذه الكلمات الموجعة اختصر خبير الآثار فضل العطل المأساة، حين سقطت قذيفة إسرائيلية على مخزن آثار تابع للمدرسة الفرنسية كان يديره في غزة، في الحادي عشر من سبتمبر 2025م، ليضاف إلى 226 موقعًا أثريًا دمرها الاحتلال خلال حرب الإبادة التي شنها على قطاع غزة.

عامان من الحرب، عامان من المحو المتعمّد لكل ما هو فلسطيني، حتى الحجر الذي شهد العصور لم يسلم. حربٌ خالفت اتفاقية لاهاي لعام 1954م بشأن حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة، وأحرقت ذاكرة الأرض بما تحويه من آثار تشهد على هوية المكان.

تقرير وزارة السياحة والآثار الفلسطينية الصادر في يناير 2025م وثّق تدمير 138 موقعًا أثريًا تدميرًا جسيمًا، أي ما نسبته 44% من مجمل الآثار المتضررة، إلى جانب 61 موقعًا أصيبت بأضرار متوسطة، و27 موقعًا أصيبت بضرر طفيف، بينما بقي 90 موقعًا فقط سالمًا، أو ربما نجا بالصدفة من القصف.

يصف العطل المخزن الذي كان يقع في الطابق الأرضي لبناية سكنية غربي مدينة غزة، بأنه "مستودع أنشئ بدعم من المدرسة الفرنسية، يضم مقتنيات أثرية تم جمعها على مدار ثلاثة عقود، تحتوي آلاف القطع التي تمتد جذورها إلى خمسة آلاف عام، ما جعله واحدًا من أهم مخازن الآثار الفلسطينية".

ورغم تحذير الاحتلال المسبق للبناية، لم يكن الوقت كافيًا لإنقاذ كل القطع، كما يؤكد العطل الذي كان يتابع من خارج القطاع محاولات إنقاذ ما يمكن إنقاذه. يقول: "أخرجنا الكثير من القطع الأثرية المهمة، أمهَلَنا الاحتلال حتى اليوم التالي، لكننا لم نتمكن من نقلها كلها، وبعدها تم قصف المكان".

ويستذكر أن قوات الاحتلال كانت قد داهمت المخزن في يناير 2024م، وفتشته بحضور خبراء آثار إسرائيليين، ما يعني أنهم كانوا يدركون تمامًا محتواه العلمي والتاريخي. ومع ذلك دمروه. يضيف بحسرة: "كان يضم آلاف القطع التي لم تخضع بعد لأي دراسات، لكنهم أرادوا أن يُباد الوجود قبل أن يُكتب التاريخ".

المواقع الأثرية في قطاع غزة تعرضت لاستهداف مباشر، إذ تم قصف البلدة القديمة، وسباط العلمي، وبيوت غزة التاريخية، والكنيسة البيزنطية في جباليا التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي، كما جُرّف ميناء الأنثيدون والمقبرة الرومانية التي تعود إلى القرنين الأول قبل الميلاد والثالث بعده، التي عُثر فيها على توابيت من الرصاص و380 قبرًا، تشهد على حياة الفلسطينيين القدماء في غزة.

كثير من المواقع لا يُعرف مصيرها حتى اليوم لوقوعها ضمن مناطق يسيطر عليها الاحتلال، مثل تل رفح وكنيسة البريج ذات الأرضية الفسيفسائية البيزنطية، وهي مهددة بالزوال لأنها على عمق نصف متر فقط من سطح الأرض. وموقع سانت هيلاريون غربي النصيرات، المسجل على قائمة "اليونسكو" لحفظ التراث، تعرّض لمخاطر شديدة بعدما دُمرت البيوت المحيطة به.

أما كنيسة جباليا، التي كانت محمية بمواصفات عالمية وتضم أرضية فسيفساء بمساحة 400 متر، فباتت اليوم مكشوفة في العراء، تواجه وحدها عوامل التعرية والحرب.

المخطوطات أيضًا كانت ضحية أخرى للإبادة. المهندسة حنين العمصي، التي تعمل في دائرة المخطوطات والآثار بقبة دار السعادة التاريخية المقابلة لقصر الباشا، كانت تحاول مع فريقها انتشال ما تبقى من تاريخ مكتوب. تقول: "تم استهداف المكان ثلاث مرات، مرة بالمدفعية، وأخرى بقصف طائرات  F16، ثم قام جنود الاحتلال بجمع ما تبقى من المخطوطات في ساحة موقف الزهراء وكبسها في موقع قبة السعادة".

"كنا نجمع المخطوطات كما نجمع أشلاء إنسان من تحت الركام، بعد خمسمئة يوم من اندلاع الحرب".

توقعت العمصي ألا تجد شيئًا، فقد فُقدت 81 مخطوطة بالكامل، بينما تم إنقاذ 147 مخطوطة رغم تعرضها لأضرار جسيمة. تصف المشهد بقولها: "كنا نجمع المخطوطات كما نجمع أشلاء إنسان من تحت الركام، بعد خمسمئة يوم من اندلاع الحرب".

وبجهودها مع فريق مكوّن من أربعة أفراد وبمساعدة مؤسسات دولية، جرت عملية إسعاف عاجلة لما تبقى، مستفيدة من مشروع رقمنة المخطوطات الذي أنجزته قبل الحرب، ما أتاح بقاء نسخة رقمية منها متاحة للباحثين حول العالم.

تقدّر العمصّي حجم الضرر الذي لحق بالمخطوطات والتراث بأنه هائل، لكنها تؤكد أن التقييم الحقيقي لا يمكن إجراؤه طالما لم تتوقف الحرب بالكامل وبشكل نهائي، وتضيف: "هذه المخطوطات هي خزائن التاريخ للشعب الفلسطيني، وثّقت ثقافته وعاداته وتقاليده عبر العصور، إنها الذاكرة التي تربط الأجيال بالماضي وتُفند مزاعم الاحتلال".

تروي بحسرة: "المخطوطات كلها فلسطينية، تراث إنساني متنوع قاوم الإبادة وبعضه نجا بالفعل. الاحتلال دمّرها بوحشية، كما دمّر المساجد والكنائس والمكتبات ومزارات غزة القديمة. حتى مؤسسة (عيون على التراث) التي كنت أديرها دُمّر مقرها بالكامل، كانت تحتوي على مكتبات علماء المدينة، واليوم لم يبقَ منها شيء".

قبل الحرب، كانت العمصي وفريقها قد تلقوا تدريبًا على الأرشفة الرقمية، وأنشأوا معملًا محليًا لترميم وتجليد المخطوطات أسموه "المعمل المعجزة"، لأنه يضاهي معمل الإسكوريال في القاهرة رغم الحصار الخانق.

تقول: "اليوم نحاول إنقاذ ما يمكن، لكننا بحاجة إلى تدخل عاجل من المؤسسات الدولية المعنية بالتراث لحماية ما تبقى".

اليونسكو وثّقت تقييمًا أوليًا للأضرار، وقدّرت أن محافظة غزة وحدها فقدت 104 مواقع أثرية، بينما فقدت مناطق الشمال ودير البلح موقعين لكلٍ منهما، وخسرت خانيونس ورفح موقعًا لكلٍ منهما.

يؤكد خبير الآثار والمؤرخ د. أيمن حسونة بدوره، أن ما جرى لآثار غزة هو أكبر كارثة ثقافية في العصر الحديث، إذ كانت المدينة من أهم مدن الجنوب الفلسطيني بحكم موقعها الذي يربط الشرق بالغرب، وطريقًا بين ثلاث قارات. وتُظهر المخلفات الأثرية عمق العلاقات التجارية التي ربطت غزة بدول البحر المتوسط منذ آلاف السنين.

يشير حسونة إلى أن المواقع الأثرية مثل تل السكن والعجول التي تعود للعصر البرونزي (3300–2200 ق.م.) تضررت بشدة بسبب القصف الذي أحدث ارتجاجات في الطبقات الأثرية.

كما فقدت غزة معالم تاريخية نادرة مثل قصر السعادة أو قصر آل رضوان المعروف بقصر الباشا، الذي كان تحفة معمارية تمثل رمز السلطة السياسية في العصور المملوكية، وقد دُمر بالكامل بما احتواه من قطع فخارية ونقود فضية.

ولم يسلم الجامع العمري الكبير، أقدم وأبرز المساجد الأثرية في غزة من التدمير، وهو الذي كان على مدى قرون منبرًا دينيًا وسياسيًا، ومنه كانت تُعلن الفرمانات في العهد الإسلامي. كما دُمّر جامع ابن عثمان في الشجاعية، المبنى الوحيد الذي حمل الطراز المملوكي كاملًا، وكان فريدًا بجماله الهندسي.

أما حمام السمرا، آخر الحمامات البخارية العاملة في غزة، فقد دمّره الاحتلال هو الآخر، وهو الذي يعود لما قبل العصر المملوكي وربما للعصر الروماني أو البيزنطي، حسب ما كُتب على جدرانه من نصوص تاريخية.

ويختتم حسونة بالقول: "إن محاسبة الاحتلال ممكنة نظريًا، فالقانون الدولي واتفاقية لاهاي لعام 1954م، تكفل حماية الآثار أثناء النزاعات، لكن التعديل الذي أُضيف عام 1999م يشترط إثبات "النية المسبقة للتدمير"، وهو ما يتطلب جمع أدلة ميدانية وتوثيقًا قانونيًا دقيقًا لرفع القضايا أمام مجلس الأمن واليونسكو. ومع استمرار الحرب، تبقى غزة، بآثارها المنهارة ومخطوطاتها الممزقة، شاهدةً على أن الإبادة لم تقتل البشر فحسب، بل حاولت أن تمحو ذاكرتهم أيضًا.

كاريكاتـــــير