قطاع غزة:
لم تمسك أماني دموعها. انفجرت بالبكاء وهي تراقب من نافذة غرفتها منزل جيرانها الذي ضجّ بمهاهاة النسوة وزغاريدهن احتفاءً بنجاح أحد أبنائه في الثانوية العامة. نادت أم الفتى بصوتٍ يرتجف فرحًا، وهنّأتها وأرسلت إليها زغرودة "هي دَينٌ في رقبتي، منذ نجحت ابنتي العام الماضي" تقول، متابعةً وهي تضحك: "هكذا هي غزة. زغرودةٌ في بيت جار تكفي ليُقام عُرسٌ في الشارع".
لحظة إعلان النتائج في فلسطين، وتحديدًا في قطاع غزة، حاسمة. من في بيته طالب، ومن ليس في بيته يترقب! الكل ينتظر على أحر من الجمر أخبار المحيطين به، وما أن تُعلن حتى تدوّي أصوات المفرقعات النارية -رغم التحذيرات- وتعلو أصوات الأغنيات، وتسير صواني الحلويات الكبيرة فوق أسطح السيارات كمنظرٍ بهيجٍ يمكن توثيقه بصورةٍ من طرف شُرفة! في هذا اليوم كل من يعيش في غزة "بيحلي تمه".
كل الناجحين من حولهم "أصحاب الفضل" من أبٍ أو أم، وحتى أولئك الذين حرمهم القدر منهما يجدون إلى جانبهم من يحبهم.. من يستطيعون نزع الفرح انتزاعًا من فم الغياب، عمٌ أو أخٌ أو خالُ أو صديق.. تمامًا كما حدث في مقطع فيديو انتشر لفرحة التفوق في منزل ابنة شهيد.
يوم إعلان النتائج في غزة، تفتح محلات الحلويات أبوابها فجرًا. وتوزّع "اللي فيه النصيب" على المارة حتى قبل إعلان النتيجة.. يتجهز أصحابها قبل يومٍ أو يومين بعشرات الأصناف التي تُرصُّ في صوانٍ ملوّنة، وتغلف بأناقةٍ وحب، استعدادًا لبيعها للمئات من أهالي الناجحين، وأقاربهم ومحبيهم، الذين لا يجدون في الفرح أحلى من "الحلو" يغلقون به صفحة مرارةٍ عاشوها في غزة قبل وقت. الحرب مثلًا.
أجواء الثانوية العامة في غزة استثناء. هنا تبدو الناس فقيرة إلى الفرح، فتجد في "زغرودةٍ" هنا أو هناك "نجدة" تنعش القلوب، حتى وإن لم يكن لديهم طلبة "توجيهي" في المنزل، لكنهم لا يترددون أبدًا بمشاركة طقوس العرس. هنا تخبرنا لما الوادية أن بناتها الثلاث في المرحلة الابتدائية، طلبوا شراء "بخاخ" الصابون الذي يُرش على الناجحين وأصروا عليه.
تتابع: "في شارعنا طلبة توجيهي، ومن المعروف أنهم من المتفوقين، لقد نظفت عائلاتهم الشارع، وعلقوا الزينة استعدادًا للحظات الإعلان".
لم تكن الطفلات مرح ومرام وسجى يدركن بعد ماذا تعني هذه السنة لأصحابها؟ لكن طقوسها أثارت فضولهن فرُحن يطلبن من أمهن شراء "الصابون" في إطار التجهيز لموسم الفرح.
العم محمد عيد، أخذ يوزع أكياس الترمس على منازل الناجحين كهدايا، وقال: "نحن شعبٌ يشتاق للفرح. بالطبع لن نوفر فرحةً كهذه قد لا نعيش مثلها لفترةٍ بعيدة".
يخبرنا أنه ينام مقبوض القلب قبيل ليلة إعلان النتيجة، برغم أن أبناءه كلهم أنهوا "التوجيهي" منذ زمن. لكنه يفكر في أولاد وبنات الجيران، مضيفًا: "أنتظر لحظة إطلاق المفرقعات النارية، التي أكرهها عادة ولا أطيق سماعها؛ لارتباطها بانفجارات العدوان الإسرائيلي. لكنها في هذا اليوم تثلج قلبي، وتبهج خاطري لأنها تعلمني أن فلانًا نجح".
ولا تكتمل هذه الأجواء، إلا بمشاركة "الفدعوس" للناس، هم عبارة عن فرق مخصصة للأفراح، يجوبون الشوارع والأزقة في أيام النتائج بحثًا عن منازل المتفوقين. يغنون لهم ويعزفون بالمزمار ويدقون الطبول لإدخال الفرحة إلى قلوب ذويهم ومحبيهم، الذين يقومون بإكرامهم بمبلغٍ من المال تقديرًا لهم.
في غزة، لا تخلو المنازل من المهنئين، يصبح القطاع ساحة فرحٍ واسعة يمتد على طول الحارات والشوارع، في موسمٍ يستمر لأيام. "وحتى في منازل الطلبة الذين لم يحالفهم الحظ، يجتمع الأقارب لأيام متتالية، ويدعمون الأبناء وذويهم" يهمس الرجل المسن في آذاننا، ويختم: "هي غزة هيك.. بتشتاق للفرح وبتوفرهوش".