شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم السبت 27 ديسمبر 2025م06:54 بتوقيت القدس

مصطفى المصري نموذج..

غائبون ابتلعتهم "الحرب".. لا شهادة وفاة ولا دليل "حياة"!

22 ديسمبر 2025 - 16:36

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في غزة، لم يعد الفقد مرتبطًا بالموت وحده، بل بالغياب الذي لا يحمل اسمًا ولا مصيرًا. غيابٌ معلّق بين الحياة والموت، لا شهادة تثبته، ولا خبر يطمئن، ولا قبر يُزار. هنا، لا يبدو الأمر استثناءً نادرًا، بل واقعًا يتكرر مع مئات العائلات، وأبو مصطفى المصري واحد من آباء الغائبين.

يتحدث الرجل وعيناه مثقلتان بالدمع عن ابنه مصطفى، الذي ابتلعته الحرب دون أثر. تعرّض لوعكة صحية خلال حرب الإبادة، نُقل على إثرها إلى مستشفى الشفاء في مدينة غزة، المكان الأخير الذي شوهد فيه قبل أن تتشظى الحكاية. هناك، في قلب المستشفى، انقطعت الخيوط، وبقي الغياب.

كان ذلك في ذروة اقتحام قوات الاحتلال لمجمع الشفاء الطبي، حين جرى تحويله من مرفق للعلاج إلى ساحة عسكرية. اعتُقل المرضى والجرحى وكل من وُجد داخل المباني. ومنذ ذلك اليوم، في الثامن عشر من مارس/آذار 2024م، فُقد أثر مصطفى بالكامل، ولم ترد أي معلومة رسمية عن مصيره حتى اللحظة.

يخبرنا الأب أن ابنه يزوره في الأحلام. في إحدى المرات سأله: أين أنت؟ فأجابه مصطفى: "أنا أسير". حلمٌ تحوّل إلى الاحتمال الوحيد الذي يتشبث به أب لا يملك دليلًا على الحياة، ولا شهادة على الموت، سوى هذا الصوت الذي يأتيه ليلًا ويتركه معلقًا عند الصباح.

بعد فقدانه، بدأ الأب رحلة بحث قاسية. فتّش المقابر داخل مستشفى الشفاء ومحيطه بعد انسحاب قوات الاحتلال وعودته إلى غزة. أبلغ الصليب الأحمر، وراجع مؤسسات حقوق الإنسان، وطرق كل باب متاح، لكن الإجابة كانت واحدة في كل مرة: لا معلومات.

يضيف بصوت خافت: "لا نعرف إن كان مصطفى أسيرًا في سجون الاحتلال، أم أنه استُشهد خلال الاقتحام ودُفن دون اسم". جملة يقولها كما لو كانت قدرًا، بلا غضب، فقط بثقل لا يُحتمل.

داخل الخيمة، لا مساحة للاختباء ولا موضع لإخفاء الدموع. هناك، تطارده مريم، ابنة مصطفى، بسؤال يتكرر ببراءة لا تعرف الحرب: "وين بابا يا سيدو؟".

وتصحو الفاجعة من جديد مع كل دفعة أسرى يُفرج عنها. يكون الأب حاضرًا، يتنقّل بين الوجوه، يسأل عن مصطفى، يدقق في ملامح الأسرى، وحتى بين المرضى منهم، علّه يعثر على خيط يقوده إليه. يعود في كل مرة بلا إجابة، ويعود الغياب أثقل.

يحاصر نفسه باللوم، ويسأل بصوت لا يسمعه أحد سواه: "كيف نزحتُ إلى جنوبي القطاع وتركت ابني وحده في غزة؟ كيف خرجت حيًّا، وتركت مصطفى يواجه المرض والحصار والاقتحام وحده داخل مستشفى؟"، أسئلة بلا نهاية، تزداد حدتها مع كل يوم يمر.

لكن القسوة الأكبر لا تأتي من الخارج، بل من داخل الخيمة، حيث لا مساحة للاختباء ولا موضع لإخفاء الدموع. هناك، تطارده مريم، ابنة مصطفى، بسؤال يتكرر ببراءة لا تعرف الحرب: "وين بابا يا سيدو؟".

يقف الجد عاجزًا أمام الطفلة. هل يقول لها إن والدها شهيد، فيقتل الأمل إن كان حيًّا؟ أم يقول لها إنه أسير، فيُبقي الأمل حيًّا.

يقف الجد عاجزًا أمام الطفلة. هل يقول لها إن والدها شهيد، فيقتل الأمل إن كان حيًّا؟ أم يقول لها إنه أسير، فيُبقي الأمل حيًّا وهو لا يعرف إن كان ذلك كذبًا أم نجاة؟ هكذا يصف حيرته، وهو ينظر في عينيها ولا يجد جوابًا.

يصف الفقد بأنه نار تأكل قلبه، تشتد كلما نظر إلى مريم، فرأى في ملامحها مصطفى، واستعاد تفاصيل طفولته، وضحكته، وحضوره الذي انطفأ فجأة. يبقى السؤال معلقًا، بلا جواب، وبلا نهاية.

في حرب الإبادة على غزة، لا يُترك الأهالي بين الحياة والموت فقط، بل يُتركون في منطقة رمادية قاسية، حيث لا شهادة وفاة ولا خبر حياة. ومصطفى المصري ليس رقمًا في قائمة المفقودين، بل إنسان غائب، وأب، وابن، وطفلة ما زالت تنتظر إجابة عن سؤال لا يجرؤ أحد على حسمه.

كاريكاتـــــير