شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم السبت 27 ديسمبر 2025م06:56 بتوقيت القدس

مجمع "الشفاء".. من ذاكرة الإبادة إلى طريق التعافي

22 ديسمبر 2025 - 13:00

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في قلب مدينةٍ لم تعد تشبه صورتها الأولى، يقف مجمع الشفاء الطبي كجسدٍ أنهكته الجراح، شاهدًا حيًّا على واحدٍ من أكثر فصول الإبادة قتامة في التاريخ المعاصر. هنا، اختلط أنين الجرحى برائحة البارود، وتحول المكان الذي كان ملاذًا للحياة إلى مصيدة موت تحت القصف المباشر وحصار الدبابات الإسرائيلية، في حربٍ أصرت على نقش وحشيتها على جدران الشفاء، حتى غدا اسمه مفارقة موجعة.

المجمع الطبي الأكبر في أراضي السلطة الفلسطينية، الذي كان يضم 13 مبنى، وقرابة 700 سرير، و22 غرفة عمليات جراحية، لم ينجُ من آلة التدمير الإسرائيلية. ضُرب مرتين؛ الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2023م بعد نحو أربعين يومًا على بدء حرب الإبادة، والثانية في إبريل/نيسان 2024م، حيث دُمّرت معظم مبانيه وأقسامه بما تحويه من أجهزة ومعدات طبية، ليخرج عن الخدمة بالكامل حتى سبتمبر من العام ذاته، ويغدو أثرًا بعد عين.

"منذ عشرات السنين، لم نعرف سوى الشفاء. نهرع إليها كلما احتاج أحدنا لرعاية طبية. ورغم التضييق الإسرائيلي الدائم، كان الأطباء يحاولون تقديم أفضل ما لديهم بما يتوافر من إمكانات".

لم يكن "الشفاء" مجرد مستشفى ضمن منظومة صحية مترهلة، بل كان الوجهة الأولى لمرضى غزة ومصابيها من مختلف المناطق، وقِبلةً تُحال إليها الحالات المعقدة والمستعصية، لما كان يتمتع به من قدرة استيعابية أعلى وإمكانات علاجية أوسع مقارنة ببقية المشافي والمراكز الصحية العاملة في القطاع.

حنان عليوة، مريضة فشل كلوي، تستعيد لحظة انقطاع العلاج في ذروة الحرب. قالت: "حين خرج المستشفى عن الخدمة، لم أعد أعرف إلى أين أذهب. القسم الذي كنت أتلقى فيه العلاج لم يعد موجودًا. أحيانًا كنت أضطر للتوجه إلى مستشفيات بعيدة وفي مناطق أكثر خطورة، وأحيانًا أخرى لا أجد الدواء، ولا أستطيع الحصول على جلسات غسيل الكلى".

وتضيف: "منذ عشرات السنين، لم نعرف سوى الشفاء. نهرع إليها كلما احتاج أحدنا لرعاية طبية. ورغم التضييق الإسرائيلي الدائم، كان الأطباء يحاولون تقديم أفضل ما لديهم بما يتوافر من إمكانات. اليوم، الصعوبات مضاعفة، والإمكانات شبه معدومة".

خرابٌ متعمّد ارتكبه جنود الاحتلال داخل مجمع الشفاء، مدفوعين بغياب الرادع وشهوة الإفساد، ومدعومين بأوامر علنية وتحريضٍ فجّ من القيادة السياسية والعسكرية لحكومة الاحتلال الأكثر تطرفًا. استهدافٌ لمستشفى خاضع للحماية بموجب القانون الدولي، يرقى إلى جرائم حرب تُرتكب على مرأى العالم، وسط صمتٍ وعجزٍ ثقيلين، وكأن غزة وأهلها خارج التصنيف الإنساني وفق منطق المستعمر الأبيض.

محمد الأزبط، أحد الكوادر الطبية المتطوعة داخل المجمع، يروي لـ"نوى" لحظة انفجار أبواب الجحيم في قلب المستشفى: "بدأ الهجوم بعد منتصف الليل. كنت أمارس عملي في مداواة المرضى حين ظهرت فجأة طائرات إسرائيلية مسيّرة من نوع "كواد كابتر"، تبث رسائل صوتية تُعلن أن المستشفى محاصر، وتطالب كل من بداخله بعدم التحرك حتى الصباح".

يتابع: "عمّ الذعر المكان. بعض المرضى حاولوا الهرب، لكن المسيرات وجنود الاحتلال أطلقوا النار بكثافة على كل جسم متحرك. كل من حاول الخروج استشهد، دون أن نتمكن من انتشاله أو إنقاذه".

مع بزوغ الصباح، كانت قوات الاحتلال وآلياتها قد انتشرت داخل ساحة المستشفى، وأمام جميع المنافذ وبوابات المباني، لتبدأ عملية فرز قسرية عبر ما يُعرف بـ"الحلّابة" الموصولة بكاميرات فحص بصمة الوجه، حيث أُجبر جميع الذكور على التعري أمامها.

على وقع تلك الساعات الثقيلة، تواصلت الاعتداءات التي لم تستثنِ المرضى والمصابين. يصف الأزبط المشهد قائلًا: "كانت ضربات من حديد. الجنود تعمّدوا ضرب المصابين بهراوات على أسياخ البلاتين المثبتة في أماكن إصاباتهم. الطواقم الطبية تعرّضت للاعتقال والتنكيل، ومُنعنا من إسعاف المرضى، ما أدى إلى وفاة أربع حالات كنت أتابعها في قسم الطوارئ خلال الساعات الأولى فقط".

وعن التخريب الممنهج، يضيف: "تصرف الجنود كان يدل على أوامر بتدمير كل شيء. أحرقوا قسم الاستقبال بالكامل، وكسّروا أجهزة غرف العمليات والمختبرات وبنك الدم، وأجهزة التصوير الطبقي والأشعة السينية، وحتى حضّانات الأطفال. كانوا يفعلون ذلك بهستيريا واحتفال، كأنهم داخل لعبة فيديو".

"الهدف من تدمير الصرح الطبي الأكبر في غزة هو ترك المرضى، ولا سيما الأطفال، في مواجهة الموت بلا علاج".

من جهته، يؤكد الدكتور محمد أبو سلمية، مدير مجمع الشفاء الطبي، أن الإبادة لم تقتصر على القصف المباشر، بل امتدت إلى حرمان الفلسطينيين من حقهم في الرعاية الصحية، مشددًا على أن الهدف من تدمير الصرح الطبي الأكبر في غزة هو ترك المرضى، ولا سيما الأطفال، في مواجهة الموت بلا علاج.

لكن الحكاية لم تنتهِ عند الركام. فكما اعتاد الغزيون النهوض من تحت الأنقاض، بدأ الطاقم الطبي، إلى جانب فرق الصيانة والدعم، رحلة شاقة لإعادة الحياة إلى المكان. لم تكن عملية الترميم سهلة ولا سريعة، لكنها كانت ضرورة وجودية.

يقول أبو سلمية: "مع دخول هدنة يناير 2025م حيز التنفيذ، بدأنا ترميم مبنى قسم الولادة. وفي أواخر نوفمبر، نجحنا في افتتاح جزء من المبنى بعد استصلاح بعض الأجهزة المدمرة، لكن طريق التعافي ما زال طويلًا".

ويضيف: "اعتمدنا على ما تبقى من مواد شحيحة في السوق المحلي، واضطررنا لشرائها بأسعار باهظة. أرواح الناس لا تحتمل الانتظار. ما زلنا نعاني عجزًا كبيرًا في الأسرّة والأجهزة الطبية، وحتى أبسط المستلزمات كالستائر للحفاظ على خصوصية المرضى".

ويشير أبو سلمية إلى أن المبنى المُعاد ترميمه خُصص لقسم الجراحة وغرف العمليات بطاقة 100 سرير، في وقت تراجعت فيه القدرة الاستيعابية لمجمع الشفاء من نحو 750 سريرًا إلى 400 فقط، بينما يتزايد عدد المرضى والمصابين بعد عامين من حرب الإبادة، مع بقاء معظم مباني المجمع مدمرة وخارج الخدمة.

ويختم بالتأكيد على أن سياسات الاحتلال في منع إدخال مواد الإعمار والأجهزة الطبية وقطع الصيانة تشكل العائق الأكبر أمام إعادة تأهيل المجمع، مطالبًا المجتمع الدولي والمنظمات الطبية بالضغط لوقف الانتهاكات المستمرة بحق المنظومة الصحية في غزة، وتفعيل الحماية القانونية للمشافي، وفق ما تكفله اتفاقية جنيف الرابعة، وغيرها من القوانين الدولية التي تُلزم بتحييد المنشآت الطبية والمدنيين عن دائرة الاستهداف.

كاريكاتـــــير