غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"في كل مرة يُذكر فيها اسم تبة النويري، أذكر مأساتي. في كل مرة أحاول الهرب من تفاصيل ما جرى، تلاحقني الذكرى. في كل عملية نزوح، ومع كل شخص يمرّ عبرها، أقول نعم.. تبة النويري، مسرح ولادتي وموت أطفالي. أسرد التفاصيل دون أن أمل، بل على العكس، كأنها فرصة لأصرخ، لكنني -حرفيًا- لم أستطع الصراخ حتى اليوم"!
بهذه الكلمات بدأت نانسي أبو موسى حديثها، الأم التي فقدت توأميها في الشهر السادس من الحمل، على "تبة النويري"، الشريان الوحيد الممتد من شمالي قطاع غزة إلى جنوبه، حيث تتكرر مشاهد النزوح لعشرات الآلاف من العائلات التي تسير حفاةً، يحملون خوفهم وجوعهم، ويبحثون عن مكانٍ قد يمنحهم فرصةً للنجاة، لكنهم يشهدون في الوقت ذاته موت بعضهم في هذه الفرصة، وكان توأم نانسي أحد تلك النهايات.
"لم نجد سيارة تقلّنا، فمشينا على الأقدام نحو الجنوب. كل خطوة كانت معركة، بين الرصاص الذي ينهال فوق رؤوسنا، وبين جسدي المثقل الذي لم يعد يقوى على حمل الحياة".
بين تلك الجموع كانت نانسي، وهي في الثلاثينيات من عمرها، تدفع بيديها المرهقتين كرسيًا متحركًا متهالكًا يجلس عليه زوجها الذي أُصيب في قصفٍ إسرائيلي على غزة. تخبرنا أنّه لم يكن أمامهما وطفلتهما خيارٌ سوى النزوح تحت الرصاص والأحزمة النارية ودويّ الروبوتات المتفجرة. كانوا يسكنون حي النصر غربي مدينة غزة، وكانت تحمل في بطنها توأمًا، وهمّ زوجها المصاب على كتفيها.
تضيف: "بالطبع لم نجد سيارة تقلّنا، فمشينا على الأقدام نحو الجنوب. كل خطوة كانت معركة، بين الرصاص الذي ينهال فوق رؤوسنا، وبين جسدي المثقل الذي لم يعد يقوى على حمل الحياة".
الطريق لم يكن سوى جحيمٍ مفتوح؛ الغبار يخنق الأنفاس، وأصوات القذائف لا تفارق الأذن. ومع كل متر كانت نانسي تشعر أنها أقرب إلى السقوط. وفجأة باغتها المخاض وسط الطريق، وتحديدًا في منتصف القطاع، على "تبة النويري"، حين انهارت أرضًا لترتاح بعد ست عشرة ساعة من السير في رحلة النزوح.
"صرخت من شدة الألم، وانزلقت مني مياه الجنين. لم أعرف أنها ولادة، أو بالأحرى لم أعرف أنه موتٌ كُتب على صغيرَيّ، وأنا التي حلمت بسماع صوتيهما، باحتضانهما متأملةً انتهاء الحرب".
تروي نانسي: "صرخت من شدة الألم، وانزلقت مني مياه الجنين. لم أعرف أنها ولادة، أو بالأحرى لم أعرف أنه موتٌ كُتب على صغيرَيّ، وأنا التي حلمت بسماع صوتيهما، باحتضانهما متأملةً انتهاء الحرب. ماتا على الفور.. ميلاد وموت في دقيقة واحدة."
لم يتوقف المشهد عند هذا الحد. زوجها المصاب جلس عاجزًا، لا يقوى حتى على مسح دموعها أو مواساتها. أما الجموع من حولهما فواصلت السير. كل عائلة تحمل مأساةً مشابهة أو أشدّ.
ترى نانسي أن الأمر انقضى، لكن آثاره ما زالت ممتدة في مسلسل الموت الذي لا تبدو نهايته قريبة. تنتظر كل النازحين الذين تعرفهم ولا تعرفهم، تسألهم عن رحلتهم، وتشير قائلة: "كل ما أنتظره سماع قصص آخرين، أريد أن أهوّن على نفسي، أريد أن أثبت أن مأساتنا ليست منفردة." تحكي للناس قصتها، تلوّح بيديها، وتنفجر باكية: "كأنه كابوس، يا ليته كان كابوسًا".
تعرف الأم الفاقدة أن ما حدث لها ليس استثناءً، بل قهرٌ وجرحٌ غائر ابتُليت به غزة منذ اللحظة الأولى لبدء حرب الإبادة الإسرائيلية، يعيشه الناس في كل دقيقة، بينما يكتفي العالم بالمشاهدة منذ عامين متواصلين.
























