غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
لم تكن فلسطين أبو صبرة تتخيّل أن اللقاء الأخير مع ابنها نهاد سيكون بين ركام الحرب، ولا أن المصحف الذي أحبّته سيقودها إليه بعد شهورٍ من الفقد والانتظار.
منذ خمسة أشهر نزحت العائلة من منزلها في مدينة حمد السكنية غربي خانيونس، تاركةً وراءها حياةً كاملة في مواجهة حرب إبادة لم تُبقِ شيئًا. كانت فلسطين تردّد في كل مكان نزوحٍ حلّت به: "اشتقت إلى مصحفي.. أريد فقط أن أقرأ منه ولو صفحة".
"لم أتوقع يومًا أن أرى ابني بهذه الصورة.. حين وجدوه، لم يبقَ منه سوى جمجمة وثماني عظام".
نهاد، وهو في العشرينيات من عمره، شاب هادئ مُحب لأمه، كان في كل مرة يعدها أن يأتيها بالمصحف متى سنحت الفرصة، لكنها لم تتخيل أبدًا أن يخاطر بالعودة إلى منزلهم المصنّف ضمن "المناطق الحمراء" ليجلبه ويسعدها به.
في أحد أيام الحرب، عاد نهاد بالفعل إلى المنطقة التي تهدّمت فيها بيوت الجيران. لم يكن يدري أن تلك الخطوة الصغيرة نحو البيت ستكلفه حياته. هناك، وسط الدمار، قيل إن حادثةً أمنيةً قد وقعت –وفق الأم– وتاهت الأخبار عن الشبان الذين كانوا في المكان. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد أحد يعرف أين اختفى نهاد!
تقول والدته: "لم أتوقع يومًا أن أرى ابني بهذه الصورة.. حين وجدوه، لم يبقَ منه سوى جمجمة وثماني عظام"، موضحةً أن الكلاب نهشت جسده وملابسه، ولم تجد عائلته حتى الفك السفلي له.
كيف عرفتِ أنه ابنك؟ تجيب بصوتٍ مبحوحٍ من الألم: "عرفت أنه نهاد من مصحفي الذي كان إلى جوار العظام.. المصحف الذي أحببته وكان هو سبب ذهابه".
تحاول فلسطين أن تتماسك وهي تروي قصتها. لم يعد في عينيها دموع، كما تخبرنا: "دموعي جفّت. لم أستطع البكاء عليه. نهاد، وزوج ابنتي.. الاثنان، رحلا. لم يعد في القلب متسعٌ لوجعٍ جديد".
رحل نهاد، الابن البار الذي خرج من منزله ليُسعد أمه بمصحف، فعاد إليها في هيئة جمجمةٍ وعظامٍ قليلة، لكنه ترك لها أثرًا لا يمحوه الزمن.
أما الأب الذي لم يبكِ في حياته، فلم يعد يمرّ يومٌ واحد دون أن تسمع زوجته وبقية أبنائه بكاءه على نجله. بدأ ينهار شيئًا فشيئًا، لم يتخيل يومًا أن يمسك عظام ابنه بيديه، ثم يقف بعدها كأن ما حدث ضربٌ من الخيال – كما تصف زوجته.
رحل نهاد، الابن البار الذي خرج من منزله ليُسعد أمه بمصحف، فعاد إليها في هيئة جمجمةٍ وعظامٍ قليلة، لكنه ترك لها أثرًا لا يمحوه الزمن. المصحف ذاته صار شاهدًا على برّ ابنٍ لم يكتمل عمره، وعلى حربٍ لا ترحم حتى من أراد أن يجلب لأمه كتاب الله.
























