شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الاحد 09 نوفمبر 2025م19:34 بتوقيت القدس

عن خسارات الحرب.. ووجوهٌ تبحث عن "العوض" بغزة!

09 نوفمبر 2025 - 14:48

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

ابتسامةٌ عريضة وبعض الكلمات رددها المصوّر الصحفي عبد الحكيم أبو رياش، وهو يلتقي رفيق روحه المصوّر نضال الوحيدي، في صباح السابع من أكتوبر 2023م. عند الساعة التاسعة تحديدًا، سلّمه عدسة الكاميرا وتعاهدا على اللقاء بعد ساعات قليلة في المكتب، لكنّ الاحتلال الإسرائيلي حوّل تلك الابتسامة إلى دمعةٍ، وأحال مصير نضال إلى المجهول حتى هذه اللحظة.

بصوتٍ يكسوه الحزن، يفتح عبد الحكيم قلبه لـ"نوى" قائلًا: "خسارتي في حرب الإبادة لا تصفها الكلمات، فقدتُ رفيق روحي نضال عند بوابة معبر بيت حانون "إيرز" أثناء التغطية الميدانية".

يصمتُ لثانيةٍ ويُطلق تنهيدةً طويلة، ثم يكمل: "منذ أكثر من عامين لا تتوفر أي معلومات عنه، أعيش معلّقًا على الأمل بأن يكون نضال حيًّا في الأسر، وأتخوف أن يكون شهيدًا ولم أستطع انتشال جثمانه".

جمعت بين المصوّرين صداقةٌ وزمالةٌ عمرها خمسة عشر عامًا، تشاركا الفرح والدمعة، واقتسما وجبات الطعام ونكهة النكات التي كانا يشاركانها على منصات التواصل الاجتماعي، فيغبطهما الوسط الصحفي على متانة علاقتهما.

يخبرنا أبو رياش بصوتٍ متهدّج، فيما تدور في ذهنه الذكريات: "مع خروج كل أسير من سجون الاحتلال الإسرائيلي أذهب وأسأل: هل شاهدت أو سمعت باسم نضال الوحيدي؟ فيخبرني البعض بالنفي، وآخرون يقولون إن اسمه تردد في السجن لكن دون رؤيته".

يتابع المصور الثلاثيني حديثه: "أدخلتني خسارتي لنضال في عزلةٍ، ومررت بحالةٍ نفسية أحاول تجاوزها مع الوقت. أفتقده في تفاصيل يومي، فلم يمر يوم في حرب الإبادة إلا وتذكرته. خسارتي لنضال لا تُعوض".

باتت الذكريات محفوظة في ذاكرة عبد الحكيم وعدسته وهاتفه، يقول بابتسامةٍ شاحبة: "أبتسم كلما مرت ذكريات نضال المضحكة، أراه في أحلامي وأدعو الله أن يطمئن عائلته عنه".

"ليس سهلًا أن يفتح أكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة جراحهم ليرووا خساراتهم بعد حرب الإبادة، فكلٌّ منهم يحمل ألمًا خاصًا لا يُقاس"، بهذه العبارة بدأت إلهام حمودة حديثها لـ"نوى"، وأكملت: "لم يكن منزلنا بيتًا عاديًا، بل حصاد شقاءٍ وتعب 65 عامًا أفناها والدي في العمل ممرضًا ليؤسس بيت العمر، الفيلا ذات الطوابق الثلاثة وحديقتها التي زرعها بورودٍ جوريةٍ في زهرة شبابه بمدينة الزهراء. وفي لحظاتٍ معدودة، نسفها الاحتلال الإسرائيلي وحوّلها إلى ركام".

وتروي بألمٍ يعتصر قلبها: "خسارتنا للبيت لا تُعوض، فهو الاستقرار والأمان الذي عشنا فيه أجمل أيام العمر، واحتضن أثمن الذكريات بجمعات الأبناء والأحفاد، واستقبل الأصدقاء ومباهج النجاح ودموع الفرح والعزاء".

تنزل دمعةٌ متحجرة من عين إلهام، وتتابع: "لم يكتفِ الاحتلال بإفقادنا المنزل بخسارةٍ تُقدر بمئة ألف دولار، بل أفقدنا مصنعنا المتخصص بإنتاج مواد التنظيف والتعقيم، بكل مواده الخام وأدواته والبركسات وماكينات الطباعة. تجاوزت خسارتنا أكثر من مليوني دولار".

تضيف بصوتٍ متهدّج: "رغم الخسارة المالية التي عصفت بنا، إلا أنّ الخسارة الأشد كانت بفقدان أكثر من خمسين فردًا من العائلة، من عمي وابنه وخالي وزوجته وعائلته التي مُسحت من السجل المدني".

في مستشفى ناصر بمدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، ومع دخول الهدنة حيّز التنفيذ، خاضت أم تميم عدوان (32 عامًا) ملحمةً من نوعٍ آخر، حين ذهبت بلهفةٍ لتتعرّف على جثمان شقيقها محمد الذي عبر الحدود بعد احتجازٍ طويل في الجانب الإسرائيلي.

تقول وهي تسند يدها إلى خدها الأيمن: "لم تكن خسارتي واحدة، بل سلسلة خسارات تجرعتها مرارًا منذ أن قتل الاحتلال والدي وأنا بعمر أربع سنوات". تمسح دمعتها وتتابع: "الخسارة الأقسى كانت في ارتقاء شقيقي الأكبر محمد، الذي كان أبي وأخي وصديقي. تعرفت عليه من بنطاله فقط".

"قتله الاحتلال ويتم طفلاته الأربع، ولم يحظَ بعناقهن قبل ارتقائه. كنت أتمنى ألا أفقده، رحم الله روحه".

تبتلع ريقها وتقول: "محمد كان الحافظ لكتاب الله، محامي الضعفاء والأب الحنون. قتله الاحتلال ويتم طفلاته الأربع، ولم يحظَ بعناقهن قبل ارتقائه. كنت أتمنى ألا أفقده، رحم الله روحه، أهديه يوميًا فاتحة الكتاب والصدقات لتطفئ حرقة الفقد".

أما في الخيمة البيضاء المرقعة، فيتحسس الطفل محمد مصلح (10 أعوام) قدمه اليمنى التي بُترت بعد الركبة، بجرحٍ مفتوحٍ يقول: "خسرت رجلي حين ذهبت أبحث عن والدي الذي اندفع لانتزاع كيس طحين من مصائد الموت في نتساريم ليطعمنا في المجاعة".

شظيةٌ إسرائيلية أفقدت محمد قدمه، ورصاصةٌ أخرى اخترقت قلب صديقه سعدي الذي كان يشاركه اللعب والطعام، ويأخذه على دراجته إلى الأسواق.

يستكمل محمد حديثه بصوتٍ يرتجف: "حُرمت ركوب الدراجة والذهاب إلى السوق ولعب كرة القدم. نفسي ترجع لي رجلي، وألعب مثل زمان مع إخوتي وأصحابي".

يحكي كلّ من قابلتهم "نوى" عن خسارته بطريقته الخاصة، وعن دموعٍ لم تجفّ بعد، لكنهم جميعًا يجتمعون على أملٍ واحد: انتظار العوض، بطعم الصبر والإيمان.

كاريكاتـــــير