غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
قبل نحو 18 عامًا، كان صبحي يحيى (44 عامًا) يسير في "شارع السوق"، بقلب مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين، شمالي القطاع، عندما استقرت في قدمه رصاصة طائشة أطلقها مسلحون ملثمون يتبعون لواحدٍ من الفصيلين اللذَين قادا أحداث الاقتتال الداخلي الفلسطيني في يونيو/ حزيران 2007م.
تسببت تلك الرصاصة بتقطع الأنسجة والأوعية الدموية في قدم يحيى، ونتج عنها إعاقة دائمة لا يزال يعاني من آثارها إلى اليوم. "جاءت الحرب لتخبرني بأنني عاجز. لأول مرة أستسلم للفكرة الصعبة، خلال الإبادة كنتُ أجرُّ قدمي جرًّا أثناء النزوح، وبالكاد تمكّنتُ من حمل جسدي وكيسًا صغيرًا من الأغراض" يقول لـ"نوى".
على مدار سنواتٍ طوال، حاول صبحي التعايش مع إعاقته، "كنتُ أتحدى أي شخص، وأخوض في أي عمل لأثبت أنني لست عاجزًا"، يضيف، مستدركًا: "لكن الحرب جاءت كالصفعة، لتثبت لي العكس. جاءت لتذكرني بأن كل ما نمر به اليوم هو نتاج انقسامنا الأول".
ويكمل بحرقة: "لقد قُتلنا نحن ضحايا أحداث الانقسام مرتين. مرةً يوم أصبنا وتوقفت حياتنا على أيدي أبناء جلدتنا، ومرةً أخرى لما جاءت الحرب فذكّرتنا بما نحن فيه".
ويتساءل الرجل بقهر: "ماذا يريد قادتنا أكثر من ما نمر به الآن في غزة، ومخيمات شمال الضفة حتى يتأكدوا بأن وحدتنا خيارنا الوحيد؟ كيف يمكن أن تمر هذه المشاهد عادية في تاريخ انقسامنا المخزي، ولا تحرك المياه الراكدة باتجاه جهود مواجهة وحدوية؟".
معاناة صبحي اليوم تفاقمت، نتيجة تبعات الحرب التي لم تنتهِ. "فأي مشوار هو بالنسبة لي كارثة. لا لا وقود، ولا سيارات أجرة. الركام يفرش الشوارع والأرصفة، ومياه الصرف الصحي تجعل من المشي مكرهة!".
بداية الحكاية..
ويعيش الفلسطينيون منذ يوليو/ حزيران 2007م، انقسامًا سياسيًا وجغرافيًا، نتج عنه حكومتين واحدة في غزة تقودها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وأخرى في الضفة الغربية وتدير شؤونها (فتح).
الانقسام الفلسطيني، حدثٌ كتبه التاريخ بدماء أبناء الحركتين. المئات من الضحايا بين قتلى وجرحى، لا يزالون حتى هذا اليوم يعانون من إصاباتهم، ويسجلون كل يوم شهاداتهم على ما يصفونه بـ"مأساة الفلسطيني"، التي لن تتوقف إلا بنهاية الانقسام، وفق ما يجمعون عليه.
وعلى مدار سنوات طويلة، عُقدت لقاءات عدة بين الفصائل على أمل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، كان آخرها بمصر في يونيو/حزيران الماضي، أي بعد 17 عامًا من الانقسام بالتمام والكمال، بعد عامين من لقاءٍ جمع قادتهم في الجزائر خلال أكتوبر/ 2022م، "لم تُسفر عن خطوات جادّة لتحقيق الوحدة".
وتعمّقت الآثار الكارثية للانقسام الفلسطيني مع بدء "إسرائيل" حرب الإبادة قبل نحو عام ونصف، حين استهدفت قطاع غزة والضفة الغربية، ما أدى لسقوط عشرات آلاف الضحايا، وتدمير مئات آلاف المنازل، وإعدام البنية التحتية، وترك الفلسطينيين أمام مستقبل مجهول.
"الانقسام سبب النكبة"
بالعودة إلى صبحي يحيى، فإنه يقول: "يُفترض في أطراف الانقسام أن ينظروا لضحايا فرقتهم من أبناء الشعب الفلسطيني، والخسائر التي تعرضوا لها وما زالوا. غزة عاشت ويلات الحروب والحصار الإسرائيلي طوال سنوات الانقسام وأخيرًا اكتوت بنار الإبادة التي لم يسبق لها مثيل، وها هي الآن مخيمات الضفة الغربية تعيش الواقع نفسه"، متسائلًا بانفعال: "ماذا ينتظر قادتنا؟ ألا يؤلمهم المشهد حقًا؟".
"الاحتلال أعلنها منذ 2007، قادته يرون انقسامنا الفلسطيني على رأس إنجازات ما يسمى بدولة إسرائيل، بعد إعلانها عنوة! كيف يقدمون له هذه الفرصة على طبقٍ من ذهب؟ وإلى متى؟".
ويضيف: "الاحتلال أعلنها منذ 2007، قادته يرون انقسامنا الفلسطيني على رأس إنجازات ما يسمى بدولة إسرائيل، بعد إعلانها عنوة! كيف يقدمون له هذه الفرصة على طبقٍ من ذهب؟ وإلى متى؟"، جازمًا أن القيادة الفلسطينية لو كانت موحدة، لكان التضامن العربي والعالمي مع القضية الفلسطينية مضاعفًا مرات ومرات، على حد تعبيره.
يطأطئ الرجل رأسه، ويصمت برهةً، ثم يعود لانفعاله المستهجن: "بدلًا من أن يتلاشى الانقسام خلال الإبادة التي تعرضنا لها في غزة، تعمّق أكثر، ورأينا تراشق طرفي النزاع بالاتهامات، دون الالتفات إلى معاناة الناس والحالة الكارثية التي يعيشونها من نزوح وفقر وانعدام سبل الحياة".
ويشير إلى أن "جرحى الانقسام هم ضحايا وشهود على تلك المرحلة الصعبة والتي لا تزال آثارها قائمة إلى اليوم"، مضيفًا: "ونحن أقدر من يحكي باسم الوحدة لأننا أكثر من أوجعنا الانقسام".
الوحدة لمواجهة الإبادة
الشابة منى الأسود من حي الشيخ رضوان، شمالي مدينة غزة، كانت من ضحايا الانقسام الفلسطيني أيضًا. استقرت في ظهرها رصاصة بينما كانت في الطريق برفقة والدتها، ووقتها كانت بعمر 9 سنوات.
تقول الشابة لشبكة "نوى": "عانيت من الإصابة على مدار سنوات طويلة، وخضعتُ لأكثر من عملية جراحية حتى تمكنت من القدرة على الوقوف على قدمي مجددًا".
"حتى هذا اليوم لا أعرف أيًا من الفصيلين كان سببًا في وصول الرصاصة لظهري. بمعنى آخر، حقي ضاع في معركةٍ لا ناقة لي فيها ولا جمل".
وتضيف: "لو كانت الإصابة التي تعرضتُ لها بسبب الاحتلال والحرب لكان أهون علي، لكنني أجد صعوبةً كبيرةً في تقبل فكرة الإصابة بسبب أحداث الانقسام الداخلي"، مردفةً بحرقة: "حتى هذا اليوم لا أعرف أيًا من الفصيلين كان سببًا في وصول الرصاصة لظهري. بمعنى آخر، حقي ضاع في معركةٍ لا ناقة لي فيها ولا جمل".
وتلفت إلى أن "كل ما مررنا به كفلسطينيين خلال الفترة الماضية في غزة، والضفة الغربية أيضًا، يُفترض أن يكون دافعًا لدى أطراف الانقسام لوقف سخافة التناحر السياسي"، متابعةً بحرقة: "هذه أكثر مرحلة مخزية في تاريخنا الفلسطيني. كل الأعلام يجب أن تحرق ويبقى علم فلسطين وحده الذي يلتف تحت مظلته الجميع".
"أنا كجريحة متضررة من الانقسام الفلسطيني، لا يمكن أن أغفر ما حصل لي إلا في حالةٍ واحدة: استعادة الوحدة الوطنية الداخلية، وإعادة اللحمة للوطن".
وتتابع الأسود حديثها: "الاحتلال يتغذى على الانقسام، ويمارس كل ما هو بشع ووحشي بحق المواطنين مستغلًا حالة التشتت والفرقة، مرتكبًا جرائمه بوحشية بينما هو مطمئن لأن أحدًا لن يقف في وجهه أو يحاسبه، فالفلسطينيون مشغولون بانقسامهم الداخلي ومشاكلهم الكبيرة التي لا نهاية لها".
وتؤكد الشابة أن "هدف الاحتلال اليوم تصفية القضية الفلسطينية، ويا للأسف فإن الانقسام أكثر ما يخدم قادته في غايتهم هذه".
وتقول: "أنا كجريحة متضررة من الانقسام الفلسطيني، لا يمكن أن أغفر ما حصل لي إلا في حالةٍ واحدة: استعادة الوحدة الوطنية الداخلية، وإعادة اللحمة للوطن؛ لمواجهة الاحتلال وحربه الشرسة التي يشنها ضد كل ما هو فلسطيني".
تداعيات الانقسام المُرة
من جهته، يقول المحلل السياسي الفلسطيني حسين الديك: "لا نرى انفراجات قريبة على الصعيد الفلسطيني، بسبب الانقسام الفلسطيني الداخلي. نحن نراه يتعمق أكثر، وهذا يدمر الموقف الفلسطيني الذي يفترض أن يكون موحدًا على الساحة الدولية".
وأشار إلى أن الانقسام المتواصل منذ نحو 18 عامًا، يزيد من تعقيد الجهود الرامية لتحقيق أي تقدم نحو إقامة الدولة الفلسطينية، التي يتطلع لها الفلسطينيون منذ عشرات السنين، ملفتًا إلى أن "الانقسام الداخلي" بكل إفرازاته، هو أكبر كارثة حلّت على الشعب الفلسطيني تاريخيًا، "وتداعياته الخطيرة على المواطنين في قطاع غزة والضفة الغربية صعبة للغاية، وزادت صعوبتها مع حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل حتى هذه اللحظة".
ويتابع الديك: "المؤسسات الممثلة للشعب الفلسطيني، مثل المجلس التشريعي ومنظمة التحرير، ما زالت تعاني من غياب العملية الديمقراطية، وعدم إجراء انتخابات دورية يضعفها ويدمر الموقف الفلسطيني"، مناديًا بضرورة اتخاذ خطوة حقيقية "من أجل الشعب"، خطوة يعطي فيها كل فصيل من الفصائل المتناحرة الأولوية لحقن الدم الفلسطيني، وحماية الأطفال من وحشية المحتل في غزة والضفة الغربية على حدٍ سواء، "خطوة تفضي إلى وحدة حقيقية باتجاه هدفٍ مركزي: حماية القضية الفلسطينية من محاولات الاحتلال طمسها وإعدامها" يعقب.