غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"لدي شعور بأنني سأموت من الجوع"، يقولها الدكتور عمر حرب بصوت مرتجف وجسد هزيل أنهكه المرض والجوع، وقد تداعى وزنه من 112 كيلوغرامًا إلى 40 فقط خلال الأشهر القليلة الماضية، التي بلغت فيها المجاعة ذروتها في قطاع غزة. هكذا أصبح الموت خيارًا وحيدًا يزاحم أنفاسه.
في خيمة متواضعة بمنطقة مواصي القرارة شمال غربي خان يونس، جنوبي القطاع، يجلس الدكتور الستيني على كرسي متحرك، ويبوح لـ"نوى": "أواجه الموت بصمت، لا أحد يسأل عني، ومنذ شهرين لم أذق طعامًا جيدًا، وحتى الطحين لم يعد متوفراً لدي". وحدته وجوعه يثقلان عليه أكثر من المرض نفسه.
حرب، الحاصل على الدكتوراه في الصحة النفسية من القاهرة عام 2017م، عمل محاضرًا جامعيًا في جامعات غزة، وشارك في مؤتمرات علمية عديدة على مستوى الوطن العربي. واليوم، بعد أن كان رمزًا للعلم والعطاء، صار أسير الخيمة والمرض والجوع، تتآكل ذاكرته بين الماضي والحاضر.
مع بدء الإبادة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م، انقلبت حياته رأسًا على عقب، وخسرت أيامه معنى الاستقرار، بعد أن حصدت آلة الحرب 26 شهيدًا من أسرته وعائلته، بينهم زوجته وأبناؤه وأحفاده، بينما دُمّرت خمسة منازل يملكها هو وأبناؤه في رفح التي حوّلها الاحتلال إلى ركام. لم تبق الحرب له إلا الرماد.
ولم ينجُ من المذبحة سوى ابنه البكر المصاب بمشكلات دماغية، ووالدته الثمانينية. يسترجع حرب تفاصيل الفقد بمرارة: "فقدت زوجتي وابنتي العروس، وابنتي نجوى وزوجها وأولادهما، وثلاثة من أبنائي خليل ومحمد وزين، وأحفادي جود وماريا (5 أعوام)، وكريم (4 أعوام)، وسارة (3 أعوام)، ومالك (عام واحد)".
وقع الكارثة كان قاصمًا لروحه، ومع هول الصدمة اكتشف إصابته بورم سرطاني في الغدة الليمفاوية، أفقده القدرة على الحركة، وهو الذي لم يعرف المرض يومًا قبل الحرب. جسده الواهن صار مرآة لآلامه التي لا تنتهي.
يصف ما يمر به بقوله: "هي رحلة عذاب لا تنتهي"، فقد تحول جسده إلى هيكل عظمي يترنح على قيد الحياة. يقول: "كل يوم أظنه الأخير لي.. يحل الليل فلا أعتقد أنني سأصمد حتى الصباح، ومع بزوغ الفجر أحمد الله الذي رد لي الروح من جديد". بين الليل والفجر، يظل الموت حاضرًا في انتظاره.
وحتى لحظة كتابة هذا التقرير، سجلت وزارة الصحة في غزة 303 حالات وفاة بسبب المجاعة وسوء التغذية، بينهم 117 طفلاً، فيما بلغ عدد من سمتهم "شهداء لقمة العيش" 2140 شهيدًا وأكثر من 15700 جريح، وهم الذين يطاردون شاحنات المساعدات التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية المدعومة أمريكيًا وإسرائيليًا، والمرفوضة محليًا ودوليًا، كما هي مرفوضة من الجائعين المنتظرين خلف الحواجز.
ستة أيام متتالية لم يعرف خلالها طعم النوم، يطارده الأرق والقلق، وتنهش آلام المرض والجوع جسده، فلا طعام ولا دواء، سوى بضع تمرات تقدمها له والدته ليتقوّت بها طوال النهار. يقول: "الاحتلال يستخدم كل أدوات القتل ضدنا، يغلق المعابر وكأننا في مصيدة، يحرمنا الطعام والدواء، وكمرضى سرطان نواجه الموت كل لحظة لغياب العلاج والرعاية". هكذا يختصر قسوة الحياة في كلمات موجعة.
الاحتلال دمّر "مستشفى الصداقة الفلسطيني التركي" في غزة، المستشفى الوحيد لمرضى السرطان، ثم دمّر "مستشفى أبو يوسف النجار" في رفح الذي احتضن الخدمة مؤقتًا، وأخرج "مستشفى غزة الأوروبي" في خان يونس من الخدمة، وهو الذي ضم "مركز غزة للأورام". وبغياب هذه المراكز، يُترَك المرضى لمصير يتسارع نحو النهاية.
"لا أريد أن أنظر إلى المرآة.. فمن سأراه ليس أنا"، يقول الدكتور حرب، بعد أن غيرت الحرب ملامحه وصحته الجسدية والنفسية، حتى كاد لا يعرف نفسه. المرآة صارت عدوًا آخر يواجهه.
وهو يشير إلى نفسه وخيمته، يستحضر ماضيه كأستاذ جامعي عاش حياة هادئة مع زوجته وأطفاله وأحفاده، ليقارنها بحاضره المليء بالبؤس والشقاء. يقول: "نحن من الفئة التي سُحقت سحقًا في الحرب والمجاعة.. فقدنا كل شيء، ولا تسمح لنا أعمارنا أو كرامتنا أو ثقافتنا بأن نركض خلف شاحنات المساعدات لننال بعض الطعام".
وحتى الكرسي المتحرك الذي يجلس عليه ليس ملكه، بل يستعيره من نازحة مسنة في خيمة مجاورة لقضاء حاجاته اليومية. ورغم مناشداته المستمرة منذ عامين لجهات مختصة، لم يُؤمَّن له كرسي خاص. الجسد يذوي، والنداءات تضيع في صمت طويل.
وتؤكد هيئات محلية ودولية مختصة بذوي الإعاقة في غزة أن الاحتلال يمنع إدخال الأدوات المساعدة من عكاكيز وكراسي متحركة وغيرها، ما يفاقم معاناة الفئة التي توسعت بشكل خطير بفعل الحرب. العجز يتكاثر كما يتكاثر الألم.
وتقدّر مجموعة عمل الإعاقة، التي تضم 50 هيئة وطنية ودولية، أن الحرب زادت من عدد ذوي الإعاقة بنسبة 55%، معظمها حركية، بسبب تزايد عمليات البتر في أوساط الجرحى. قبل الحرب، كان عدد ذوي الإعاقة 58 ألفًا، 47% منهم حركية، لكن الحرب أفرزت نحو 32 ألف إعاقة جديدة. وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن 25% من الجرحى باتوا أسرى لإعاقات مختلفة. ومع كل هذه الأرقام، يظل الدكتور عمر حرب وجهًا حيًا يختصر حكاية الألم والفقد.