غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
يبدو المشهد سرياليًا على امتداد شارع الرشيد الساحلي المدمَّر، وقد بات الشريان الرئيس الذي يربط بين جنوبي قطاع غزة وشماله، بعدما أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي على إغلاق شارع صلاح الدين وأعادت تمركزها فيما يعرف بـ "محور نتساريم" إثر انهيار اتفاق وقف إطلاق النار في 18 مارس/آذار الماضي.
تختلط المشاهد في هذا الشارع وتتداخل على نحوٍ كبيرٍ من العشوائية، تغيب معها مظاهر المدنية الحديثة، لصالح بدائل اضطرارية لجأ إليها المواطن الغزي من أجل تدبر شؤون حياته اليومية، فهذا يسير على قدميه لعدم امتلاكه ثمن أجرة المواصلات التي ارتفعت أضعافًا مضاعفة، بسبب ندرة السيارات وأزمة الوقود، وآخر يقود دراجته الهوائية.

وتحوّلَت العربات ثلاثية العجلات المعروفة شعبيًا باسم "التكتك"، والعربات التي تجرها الحيوانات (الكارو)، لوسائل نقل لا بديل عنها للأفراد والبضائع على حد سواء، مع منع قوات الاحتلال تنقل السيارات في شارع الرشيد، والسماح فقط للمشاه ووسائل النقل البدائية.
ووسط الكثير من المشاهد اليومية البائسة، يبرز لجوء الغزيين للتكاتك وعربات الكارو في نقل الغذاء والإمدادات الإنسانية المتوفرة في ظل استمرار الحصار المشدد وإغلاق الاحتلال للمعابر، ويكابدون في سبيل نقل الخضار تحديدًا من جنوبي القطاع إلى شماله، حيث لم تعد في مناطق الشمال أراض زراعية بعد الإخلاء الإسرائيلي لبلدات بيت لاهيا وبيت حانون من السكان، وهما الأكثر مساهمة في السلة الغذائية لتلك المناطق.
في المقابل وبالطريقة ذاتها ينقل تجار ومواطنون الخشب والحطب من شمالي القطاع إلى جنوبه، لاستخدامه بديلًا عن غاز الطهي المفقود تمامًا منذ 4 شهور.

بفعل الحرب المستعرة في عامها الثاني تحول شارع الرشيد إلى ممر إنساني محفوفٍ بمخاطر جمة وسط حصار خانق ومجاعة متفشية، وييتحدث أبو محمد صالحة وهو صاحب عربة كارو لـ "نوى" عن الصعوبات التي يواجهها خلال عمله اليومي في نقل الخضروات من منطقة "تبة النويري"، وهي آخر نقطة يمكن أن تصل إليها سيارات الأجرة والنقل، ومن ثم يترجل الركاب ويواصل كل منهم طريقه بالوسيلة التي يريدها، سيرًا أو على متن كارو أو تكتك، فيما يتم إفراغ البضائع والخضار من السيارات ونقلها على هذه الوسائل البدائية لإيصالها لمدينة غزة.
"هذا الشارع مسموح فقط للمشاة، ونحن اضطررنا لاستخدام التكاتك والكارات، ونعلم أنها خطر ويمكن استهدافها من قبل الطائرات أو الزوارق في البحر، أو حتى الدبابات المتمركزة في محور نتساريم".
ويقول صالحة "نضطر إلى العبور عبر شارع الرشيد بحذر وخوف، ما يجبرنا على قطع مسافات أطول وخوض مغامرات محفوفة بالمخاطر، فهو مدمر بالكامل، ومليئ بالحفر والركام نتيجة عمليات القصف والتجريف، أما في السابق كنا نسلك شارع صلاح الدين ونصل إلى الشمال بكل سهولة وبوقت أسرع".
"هذا الشارع مسموح فقط للمشاة، ونحن اضطررنا لاستخدام التكاتك والكارات، ونعلم أنها خطر ويمكن استهدافها من قبل الطائرات أو الزوارق في البحر، أو حتى الدبابات المتمركزة في محور نتساريم، ولكن ليس أمامنا بدائل أو خيارات أخرى"، يقول صالحة.

ونجا صالحة قبل بضعة أسابيع من غارة جوية إسرائيلية استهدفت سيارة نقل حاول سائقها قطع جسر وادي غزة الممتد من تبة النويري حتى مدخل مدينة غزة، ويقول "السائق استشهد على الفور ودمرت السيارة بشكل كبير".
وتتملك هذا الرجل الأربعيني مخاوف من احتمالات توغل جيش الاحتلال في أي لحظة نحو "مفترق النابلسي" وقطع الطريق وفصل جنوبي القطاع عن شماله، ويضيف: "نذهب برعب ونعود برعب، والشارع مدمر ولا يصلح للسير ولكن لا خيار أمامنا".
"في السابق، كنا نصل من شارع صلاح الدين إلى حي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة في نصف ساعة، أما الآن، فعبر شارع الرشيد، يستغرق المشوار 4 ساعات بسبب الدمار والمخاطر الأمنية".
أما التاجر أمين شاهين فيقول لـ "نوى": "في السابق، كنا نصل من شارع صلاح الدين إلى حي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة في نصف ساعة، أما الآن، فعبر شارع الرشيد، يستغرق المشوار 4 ساعات بسبب الدمار والمخاطر الأمنية".
قبل الحرب، يضيف شاهين: "كنا بنشتغل عن طريق صلاح الدين، نخرج الساعة 2 فجرًا ونعود لمنازلنا الساعة الثامنة صباحًا، أما اليوم الوضع اختلف تمامًا (..) احنا مبهدلين، نخرج الساعة 4 العصر ونعود لمنازلنا الساعة 9 صباحًا في رحلة يومية شاقة وخطيرة عبر طريق الرشيد، وهو شارع محطم وصعب للغاية، علاوة على أن التكلفة باهظة في نقل البضائع والسلع، وبالتالي ترتفع الأسعار على المواطنين المستهلكين".

وبدوره، يقول التاجر محمد علوان لـ "نوى": "جرى نقل سوق الجملة للخضراوات إلى تبة النويري لتسهيل عملية البيع والنقل عبر شارع الرشيد، في محاولة لإيصال الخضراوات إلى مدينة غزة وشمال القطاع، حيث يعاني السكان هناك من نقص حاد في الغذاء.
"ورغم المخاطر، نستمر في البيع عبر شارع الرشيد لتسهيل وصول الخضراوات للمواطنين، خاصة بعد أن دمر الاحتلال المناطق الزراعية في بيت لاهيا وبيت حانون، وهما السلة الغذائية الرئيسية لغزة"، وفقًا لعلوان.
وعلى الجانب الآخر، يعمل التاجر أيمن أبو نمر في تجارة الحطب والأخشاب، وقد تولى بنفسه مهمة نقلها من شمالي القطاع إلى جنوبه بعد استشهاد ابنه خلال الحرب، ويقول لـ "نوى": "في ظل أزمة الوقود وغاز الطهي ازداد الطلب على الخشب والحطب كوقود للنيران من أجل تدبر شؤون الحياة اليومية".
""نعيش وسط الدمار، ونمشي على الدمار، وحياتنا هنا في غزة كلها دمار فوق دمار.. هذه الحرب قلبت حياتنا، أوضاع الناس كارثية، ويواجهون الموت بالألوان".
وينقل أبو نمر يوميًا كميةً من الأخشاب والحطب، في أغلبها من مخلفات التدمير الذي أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية ضد المنازل السكنية والمنشآت العامة والخاصة في شمالي القطاع، ويورده لتجار وأصحاب أفران في جنوب القطاع، سواء لإعداد الخبز ضمن مبادرات خيرية أو كمشاريع صغيرة، علاوة على البيع للنازحين المتكدسين في الخيام ومراكز الإيواء لاستخدامه في إعداد ما يتوفر من غذاء.
وعن مهمة التنقل عبر شارع الرشيد، يصفها أبو نمر بأنها "خطيرة للغاية"، ويضيف: "نعيش وسط الدمار، ونمشي على الدمار، وحياتنا هنا في غزة كلها دمار فوق دمار.. هذه الحرب قلبت حياتنا، أوضاع الناس كارثية، ويواجهون الموت بالألوان، قصفًا وجوعًا، والأسعار جنونية".
وتواصل دولة الاحتلال منذ الثاني من مارس/آذار الماضي فرض حصار مشدد، وإغلاق كلي لمعابر قطاع غزة، وتمنع بموجب ذلك إدخال شاحنات المساعدات الإنسانية، الأمر الذي ألقى بظلاله على الواقع الإنساني المتدهور بالنسبة لأكثر من مليوني فلسطيني تعصف بهم مجاعة متفشية.
                
            
                                                                    
                                            




















