غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
متكئًا على وسادة بالية في زاوية من خيمته التي اهترأت لكثرة النزوح والتنقل، جلس الثلاثيني نضال أبو صلاح يتأمل ساقه المصابة بجروح بليغة، وقد بات عاجزًا عن الحركة، والقيام بشؤون أسرته المكونة من زوجته و6 أطفال، بينهم توائم (ولدان وبنتان).
26 مايو/أيار 2024م. يحفظُ أبو صلاح (38 عامًا) هذا التاريخ جيدًا، ويقول لـ "نوى" إنه سيلازمه لبقية حياته، ففيه انقلب حاله، بعدما تعرضت المنطقة التي يقع فيها منزله، بين بلدتي عبسان الكبيرة وخزاعة، جنوب شرقي قطاع غزة لقصف مدفعي عنيف، "وكانت القذائف تتساقط ككتل من نار، وأصوات الانفجارات تخلع القلوب".
"طلبتُ من نضال أن يصعد للطابق العلوي ويُحكم إغلاق أسطوانة الغاز، وفجأة وقع انفجار ضخم، صعدنا للتحقق من الأمر، فعثرنا على نضال مغمى عليه ويغطيه الركام والدماء تنزف منه".
"أصيبت ابنة جاري، فأسرعت للمساعدة، لم نجد أي وسيلة مواصلات، وسيارات الإسعاف لا تصل إلى منطقتنا المصنفة أنها حمراء، (بالغة الخطورة)، ويقول: "وضعناها فوق كارة بدون حمار وبثلاث عجلات فقط، وبذلنا جهدًا كبيرًا وسط الخطر والانفجارات وأعمدة الدخان المتصاعدة، حتى ابتعدنا بها، وعدت لأسرتي للنزوح ومغادرة المنطقة".
كان أبو صلاح قد نزح بأسرته –لأول مرة- مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع، في 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023، لكنه لم يحتمل حياة البؤس في الخيام، وقرر بعد 7 أشهر العودة إلى البيت.
يقول: "مكثنا أكثر من شهر بقليل، اخترنا البقاء طوال الوقت في الطابق الأرضي من المنزل؛ لتجنب مخاطر الطوابق العليا التي تكشف السياج الأمني الإسرائيلي على بعد مئات الأمتار".
"كانت فترة صعبة ومرعبة، ولكن كنا داخل منزلنا، وليس في خيمة بلا خصوصية وبلا مقومات حياة، حيث كان دخول الحمام بالنسبة لزوجتي وأطفالي مهمة شاقة ومعقدة"، يضيف.
في ذلك اليوم، وبعد إنقاذ ابنة الجيران، عاد أبو صلاح لأسرته، وكانت زوجته رنا (35 عامًا) تُعد أطفالها للمغادرة، وهنا تستكمل الزوجة فصلًا من الحكاية المؤلمة لا يدركه زوجها، وتقول لـ "نوى": "طلبتُ من نضال أن يصعد للطابق العلوي ويُحكم إغلاق أسطوانة الغاز، كي لا تحرق البيت إذا أصابته قذيفة".
"وفجأة وقع انفجار ضخم، صعدنا للتحقق من الأمر وكان بيننا أحد أشقاء نضال ولديه معرفة بالإسعافات الأولية، وكان الدخان الأسود المختلط بالغبار يزكم الأنوف، ونكاد نصاب بالاختناق، والركام يملأ السلالم ويعيق الحركة، وعثرنا على نضال وسط هذه الحالة، مغمى عليه ويغطيه الركام والدماء تنزف منه".
بتوجيهات من شقيقه، استطعنا تخليصه ورفعه، وبلهفة تكمل رنا وكأن الحدث وقع للتو: "لو تأخرنا قليلًا لمات خنقًا، وضعناه في عربة صغيرة تستخدم في أعمال البناء، وأسرعنا به. كنت أركض بلا وعي، وقد وضعت التوائم الأربعة في عربة واحدة، بينما اثنان يمسكان بطرف جلبابي، والقصف في كل مكان. كانت احتمالات النجاة ضئيلة، لكنني لم أكف عن الدعاء".
وفي المستشفى، كان القرار: "بتر الساق". "يا الله وهل بهذه البساطة تأخذون قرارًا ببتر ساق زوجي، وتركه بإعاقة بقية حياته؟" تساءلت رنا بغضب، غير أنها تقول: "لم استسلم، وكان إيماني بالله أقوى من قرار الأطباء، الذين أدخلوه لغرفة العمليات لإجراء عملية البتر".
في تلك اللحظات، نجح طبيب بريطاني من أصل عراقي اسمه "محمد طاهر" بإجراءات جراحية لحماية الساق من البتر، ولكن إلى حين!
"حسب الأطباء هنا فإن الساق لا تزال في خطر، ولا يتوفر علاج لي في غزة، وأنا بحاجة شديدة للسفر من أجل تلقي العلاج المناسب وإنقاذ ساقي من البتر".
هنا يعود الزوج للحديث، ويقول: "كان من المفترض أن أظل على متابعة مع هذا الطبيب، لكن الاحتلال منعه من العودة إلى غزة بعد مغادرته لها مؤقتًا لرؤية أسرته وأهله".
"وبحسب الأطباء هنا فإن الساق لا تزال في خطر، ولا يتوفر علاج لي في غزة، وأنا بحاجة شديدة للسفر من أجل تلقي العلاج المناسب وإنقاذ ساقي من البتر"، يضيف.
ويعيش هذا الزوج المصاب وأسرته حياة بائسة في خيمة، لا تتوفر فيها مقومات الحياة الأساسية، فضلًا عن عدم مواءمتها له كجريح، وقد انخفض وزنه من 105 كيلوغرامات إلى 60 كيلوغرامًا، ويشكو من عدم توفر الطعام والدواء، وقد زادت أوضاعه المعيشية ترديًا في الشهور الثلاثة الماضية، نتيجة الحصار المشدد، وإغلاق الاحتلال للمعابر ومنع إدخال المساعدات الإنسانية منذ 2 مارس/آذار الماضي.

ورغم مأساوية واقع أبو صلاح وأسرته، إلا أنه يبدو أفضل حالًا من باسل البريم وأسرته المكونة من (5 أفراد)، الذين يعيشون في الشارع منذ نزوحهم من بلدة بني سهيلا، جنوبي قطاع غزة، قبل نحو أسبوعين.
نزح البريم (52 عامًا) بأسرته، وبالقليل من الأمتعة، حملوها على أكتافهم، وقطعوا مسافة تزيد على 5 كيلو مترات سيرًا لندرة وسائل المواصلات، وارتفاع أجرة النقل.
ولدى هذا الأب ابن يعاني من إعاقة ذهنية، يخبرنا: "ابني حمزة عمره 10 أعوام، ولا يمكنه المشي بشكل طبيعي، واضطررت للتبديل بينه وبين الأمتعة، أضعها جانبًا وأسير به لمئتي متر، وأضعه وأعود لجلب الأمتعة، وهكذا طوال الطريق حتى وصلنا هنا"، حيث يقيم بجوار سور مدرسة محاذية لمجمع ناصر الطبي، غربي مدينة خان يونس.
ووفقًا لهذا النازح، فإن هذه هي تجربة النزوح الأصعب من بين مرات كثيرة لم يعد يحصيها، لأنها تتقاطع مع مجاعة شديدة، وعدم توفر الطعام.
وفقد البريم عمله مع اندلاع الحرب، وليس له دخل يعتاش وأسرته منه، ويشعر بعجز يعتصر قلبه وهو مكبل اليدين أمام أطفاله الذين يتضورون جوعًا، ولا يمتلك ثمن رغيف خبز يشتريه لهم، في ظل ارتفاع هائل في الأسعار.
ولحمزة حكاية معاناة مختلفة، فهو يحتاج إلى أطعمة خاصة غير متوفرة في الأسواق جراء الحصار، ويضطر والده إلى إطعامه ما يتوفر، حتى تدهورت حالته الصحية، وفقد نحو 10 كيلوغرامات من وزنه، ويشعر الأب بقلق شديد على ابنه المريض، وهو يلاحظ يوميًا تراجعًا كبيرًا في صحته.
وبحسب بيانات هيئات محلية ودولية فإن الجرحى والمرضى في غزة، من بين الفئات الأكثر هشاشة وتأثرًا بتداعيات الحرب المستعرة في عامها الثاني على التوالي، إذ تعصف بهم أزمات مركبة تتهدد حيواتهم، ويواجهون تعقيدات يومية من أجل توفير الغذاء والدواء والبقاء على قيد الحياة.
                
            
                                                                    
                                            




















