غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
تلاحق المشاهد اليومية لوداع الشهداء، المصور الصحفي خالد شعث حتى خلال ساعات النوم القليلة التي يسترقها من بين زحمة الأحداث الدامية التي يلاحقها بعدسته، منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول للعام 2023م.
"هذه الحرب قلبت حياتي رأسًا على عقب" يقول الصحفي العشريني لـ"نوى"، وهو الذي كان يستعد للزواج قبل اندلاعها، وقد أتم تجهيز شقته السكنية في العمارة التي يقطنها مع عائلته في "حي السلام" بمدينة خان يونس جنوبي القطاع، التي باتت "أثرًا من بعد عين"، حيث حوّلت قوات الاحتلال طوابقها الأربعة إلى كومة كبيرة من الركام.
كثيرةٌ هي المواقف المؤلمة التي مرت بالصحفي الشاب خلال عمله في الميدان، آخرها وأشدها ألمًا، قبل بضعة أسابيع، عندما نجا من غارة جوية إسرائيلية استهدفت خيمة في "مخيم الصحفيين" الملاصق لمجمع ناصر الطبي غربي مدينة خان يونس، ولا يزال خالد غير قادر على تجاوز مشهد زميله الشهيد أحمد منصور وهو يحترق وسط النيران.
لا ينام شعث سوى 4 ساعات يوميًا منذ اندلاع الحرب، وكثيرًا ما يستيقظ فزعًا من حلم أو كابوس عنوانه: "الموت والقتل ومشاهد نساء يودعن أحبتهنّ شهداء".
هذا المشهد، ومشاهد وداع الشهداء التي تختلط فيها زغاريد القهر بالدموع، تأتي لشعث على هيئة "كوابيس" مزعجة، ويقول إنه لا ينام سوى 4 ساعات يوميًا منذ اندلاع الحرب، وكثيرًا ما يستيقظ فزعًا من حلم أو كابوس عنوانه: "الموت والقتل ومشاهد نساء يودعن أحبتهنّ شهداء".
وفي "اليوم العالمي لحرية الصحافة" الذي يصادف الثالث من مايو/أيار من كل عام، تبدو الحرية بالنسبة لشعث وزملائه من الصحافيات والصحافيين في غزة "ترفًا"، وهم يعملون "بلا حصانة"، وقد باتوا أهدافًا للاحتلال، واستشهد منهم 211، وأصيب عشرات آخرون، ونالت نيران الاحتلال من أسرهم ومنازلهم وممتلكاتهم.
لم يعد شعث يحصي عدد مرات النزوح التي أُجبر وعائلته عليها منذ اندلاع الحرب، كان آخرها قبل نحو شهر، عندما تقدمت قوات الاحتلال وأفرغت مدينة رفح من سكانها بالكامل.
لم يعد شعث يحصي عدد مرات النزوح التي أُجبر وعائلته عليها منذ اندلاع الحرب، كان آخرها قبل نحو شهر، عندما تقدمت قوات الاحتلال وأفرغت مدينة رفح من سكانها بالكامل، وعزلتها عن مدينة خان يونس المجاورة بإقامة "محور موراج"، وأجبرت سكان الأحياء القريبة منه إلى إخلاء منازلهم.
كانت عائلة شعث تقيم في خيمة فوق ركام منزلها المدمر في "حي السلام" وشملتهم أوامر الإخلاء الإسرائيلية، ويصف النزوح بأنها "تجارب قاسية".
ولا ينسى شعث مشهد خاله وزوجته و6 من أبنائهما، مسحوا من السجل المدني، جراء غارة جوية إسرائيلية استهدفتهم، ورغم أنه لا يعتقد أن "مشاهد الحرب الدامية" ستفارقه طوال حياته، إلا انه يبدي عزمًا على مواصلة مهنته التي يصفها بـ "الإنسانية السامية"، وبإصرار يقول: "مستمرون وسيبقى صوتنا هو صوت الضحايا، وشوكة في حلق المحتل".
وتقول الصحافية براء لافي لـ"نوى": "كإنسانة تعبت من الحرب. نعمل طوال اليوم ونحن جوعى لا نجد ما نأكله، والمخاطر تحدق بنا من كل صوب، ولكنني أتغلب على كل ذلك، وأحدث نفسي بضرورة استكمال رسالتي"، متابعة بانفعال: "لا بد لهذا العالم الّذي يقف صامتًا أمام دمنا النازف أن يعي حجم الجريمة غير المسبوقة التي ترتكبها قوات الاحتلال بحق أكثر من مليوني مدني، جلهم نساء وأطفال في غزة".
براء (28 عامًا)، تعمل مراسلة للإذاعة السويديّة، وتحمل جنسية السويد التي عاشت فيها أكثر من نصف عمرها، وهذه هي المرة الأولى التي تعيش فيها تجربة حرب وتغطيتها إعلاميًا، وتشعر بالفخر، كون عملها مع الإذاعة السويدية كان له صدى في الشارع السويدي "البارد إزاء القضايا الخارجية".
بسؤالها عن أصعب المواقف التي عايشتها خلال الحرب، تقول: "الحرب بثقلها وبكل ما فيها من أصعب تجارب حياتي"، وتضع "آلام النزوح وفقد الأحبة" في المرتبة الأولى وسط شدائد هذه الحرب، لا سيما وقد اضطرت مع شقيقتها الصغرى للنزوح سيرًا لأكثر من 12 كيلو متر من رفح حتى خان يونس، لترك مساحة في سيارة النقل لأمهما وشقيقتهما المصابة بإعاقة.
"الحرب خطفت مني كثير ناس بحبهم، أحدهم ابن خالتي محمد وله مكانة في حياتي، وكان صديق أسرتنا المقرب منذ عودتنا من السويد إلى غزّة".
في اليوم الأول للحرب، بل في ساعاتها الأولى، تلقت براء أول صدماتها باستشهاد ابن خالها المصور الصحفي إبراهيم لافي، وفي مايو/ أيار من العام الماضي، عندما كانت وأسرتها تتهيأ للنزوح -لأول مرة- عن مدينة رفح، دوى انفجار كبير هزّ أرجاء حي الجنينة شرقي المدينة، وتقول: "كان المستهدف بيت خالي جمال، وقد استشهد أربعة من أبنائه، 3 ذكور وابنته البكر آسيا الّتي تركت وراءها طفلتين جميلتين".
وعلى وقع هذا المصاب الجلل، نزحت براء وأسرتها إلى مدينة دير البلح وسط القطاع، وأمضت فيها ثلاثة أشهر، ومن بعدها خاضت تجربة النزوح مرارًا.
وبعد صمت للحظات تنهدت خلالها بعمق، تقول: "الحرب خطفت مني كثير ناس بحبهم، أحدهم ابن خالتي محمد وله مكانة في حياتي، وكان صديق أسرتنا المقرب منذ عودتنا من السويد إلى غزّة، وكان رفيقنا في الرحلات، واليوم رغم حبي الشديد للبحر، إلا أنني عندما أمر به أتذكر محمد وأبكي بشدة".
وتقيم الصحافية العشرينية هلا عصفور مع زميلتها براء وأخريات في شقة خاصة بالصحفيات، تمولها "فلسطينيات" قرب مجمع ناصر، كي يبقين على تماس مع تطورات الأحداث الميدانية، وتتفق معها على أن النزوح ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، إنه "اقتلاع قسري من حياتنا، نجبر عليه، ونحمل ذكرياتنا فوق أكتافنا، ونترك كل شيء وراءنا ونمضي إلى حيث اللامكان واللاأمان".
تقول هلا لـ "نوى": إن أيام النزوح تمر على النازحين كسنين من التعب والمأساة، "ونحن كصحفيات وصحفيين نلنا نصيبنا من ذلك، ونقاسي ويلات القلق الدائم على أسرنا خلال عملنا في الميدان، وهو قلق متبادل، فنحن أيضًا في خطر".
"قبل اندلاع الحرب كانت حياتي بسيطة، وكنت للتو قد تخرجت من الجامعة، ونعيش وأسرتي حياة مستقرة في بلدة عبسان الجديدة، وهي بلدة صغيرة زراعية وهادئة شرقي خان يونس".
وتضيف: "لم يبق من ذلك شيئًا، حياتنا باتت معقدة ومتقلبة، ومهددة بالقتل والجوع، واستقرارنا تحول إلى نزوح وتشتت وقلق دائم".
عن نفسها كصحافية ناشئة بداية الحرب، تقول هلا: "لم أكن مصورة محترفة، ولكنني نزلت الميدان بلا تردد، وكأن صوت الضحايا يناديني: لا تتركونا نموت بصمت".
وفي واحد من أقسى المواقف التي تعرض لها مراسل قناة الجزيرة القطرية رامي أبو طعيمة، عندما ظهر على الهواء مباشرة، لحظة استهداف غارة جوية إسرائيلية لمبنى الجراحة في مجمع ناصر الطبي. يقول لـ "نوى": "كانت من المرات الكثيرة التي نجونا فيها من الموت أو الإصابة، كنت أبعد بضع أمتار فقط عن المبنى المستهدف".
رامي (42 عامًا) يعيل أسرة مكونة من (11 فردًا)، أصغر من فيهم طفله سند، وهو الوحيد بين شقيقات، ورزق به قبل اندلاع الحرب مباشرة، ويقول: "هو طفلي الذي حلمنا به 18 عامًا، ولم أحظ بالفرصة كي أقضي معه الوقت الكافي بسبب الانشغال الدائم بتغطية الحرب بالميدان".
يسيطر القلق على رامي على مدار اللحظة، خشية على أسرته النازحة من منطقة الفخاري جنوب شرقي مدينة خان يونس، فيما هو بعيد عنها غالبية وقت اليوم، سواء بالنهار أو الليل، ووفقًا له: "لا يوجد مكان آمن في غزة، الكل مستهدف، في الشوارع والمدارس والمستشفيات والمنازل وحتى الخيام".
هذا الخطر الدائم انعكس على مراسل قناة الغد علاء أبو محسن، الذي يقول لـ "نوى": "كل يوم في هذه الحرب أشعر أنه اليوم الأخير لي في هذه الدنيا".
ويستذكر أبو محسن (27 عامًا) زميله الشهيد سعيد الطويل، الذي رافقه من مدينة رفح إلى مدينة غزة لتغطية الحرب في يومها الأول، وعاد به مسجى شهيدًا في ثالث أيام الحرب، ورغم مرور كل هذه الشهور لا يزال غير قادر على تخطي هذا المشهد.
ويتابع: "الصحفيون في قطاع غزة يعملون في بيئة من الخوف والقلق وقلة الإمكانيات"، وبعد لحظة صمت عابرة، يستكمل أبو محسن حديثه قائلًا: "نشعر باستنزاف نفسي، وجرح غائر في الذاكرة يبدو أنه لن يندمل أبدًا مهما مرت السنين، وسيعود للنزف كلما تذكرنا أحبتنا الشهداء وكلما شاهدنا الدمار الهائل من حولنا".
                
            
                                                                    
                                            




















