غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة، بدت الطفلة الجريحة منة عقل على سريها وكأنها تعيش عالمها الخاص. تحاول أن تتغلب على آلام جسدها، وهي الغارقة في بحر من الذكريات المؤلمة، منذ أن نجت وحيدةً من غارةٍ جويةٍ إسرائيلية استهدفت منزلها في مخيم البريج للاجئين وسط القطاع.
هذه الغارة، خطفت أرواح أفراد أسرتها الخمسة، وتركت منة (8 أعوام) تحمل لقب "الناجية الوحيدة"، بعد أن انتُشلت من تحت أنقاض منزلها، بكسور وجروح بالغة في ساقيها، وبدأت بتلقي العلاج في المجمع الطبي، ريثما تحصل على تحويلةٍ للعلاج في الخارج، حيث يبدو ذلك مستحيلًا في ظل تدهور إمكانيات القطاع الطبي بغزة.
ليلة السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2024م، ستبقى محفورة في ذاكرة منة لبقية حياتها. "أتذكرها وأرى الدم أمام عيني. كانت الطائرات تحلق بصورة مرعبة في السماء، لكنني لم أكن أتخيل أن تكون عائلتي الضحية التالية".
تقول منة لـ"نوى": "كنت خايفة كثير مثل كل ليلة، ورحت أنام وأنا بأدعي الله أن يحمينا"، وغرِقت في حزنها للحظات، ثم أضافت: "مثل ما انت شايفة أنا بالمستشفى وأهلي كلهم شهداء".
لم يتبق لمنة سوى جديها، وقد تلقت خلال الحرب صدمات قاسية، جراء غارات أودت بحياة غالبية أفراد عائلتها من أعمامها وعماتها وأسرهم.
هوى المنزل فوق رؤوس من فيه في لحظةٍ كلمح البصر، لكنها بالنسبة لمنة تمثّل عمرًا طويلًا، وقد عايشت تجربة قاسية تحت الأنقاض، لتنجو وتجد نفسها وحيدة، وما من أحد يجرؤ على إجابة تساؤلاتها: "أين ماما؟ أين بابا؟ أين أخوتي؟".
لم يتبق لمنة سوى جديها، وقد تلقت خلال الحرب صدمات قاسية، جراء غارات أودت بحياة غالبية أفراد عائلتها من أعمامها وعماتها وأسرهم، وبكلمات مثقلة بالحزن تتحدث عن شعورها بالوحدة، واشتياقها لوالديها وأخوتها الشهداء.
"هل تحبين شهر رمضان؟" سألناها، وبينما كانت منهكمة في استكمال صناعة فانوس من ورق كتاب مدرسي، لتعليقه على الحائط المقابل لسريرها المزين برسوماتها الملونة، أجابت ببراءة: "كثير كنت أحب شهر رمضان، وماما كانت تطبخ لنا أكل زاكي، وبابا كان يشتري لنا فوانيس حلوة".
بدا الحديث عن شهر رمضان مريحًا بالنسبة لمنة، التي خاضت تجربة صومه لأول مرة منذ أن كانت في الخامسة من عمرها، واسترجعت ذكرياتها مع أسرتها، فقالت: "كان أبي يذهب للسوق ويشتري لنا كل حاجة بنحبها، ويحضر زينة رمضان، وكنت أساعد ماما في تزيين البيت".
وفجأة أشاحت بوجهها وهي تتساءل بألم شديد: "ليش دمروا البيت وقتلوا أهلي؟
"كان أبي يذهب للسوق ويشتري لنا كل حاجة بنحبها، ويحضر زينة رمضان، وكنت أساعد ماما في تزيين البيت".
مثل هذه الأسئلة تتردد على ألسنة آلاف الأطفال من أقرانها الذين فقدوا والديهم أو أحدهما، وبينهم ناجون وحيدون من غارات مسحت أسرهم كليًا من السجل المدني، جراء غارات جوية إسرائيلية حولت منازلهم الآمنة إلى مقابر، ولا يزال كثير من الضحايا عالقون تحت ركامها.
لمست جدة منة واسمها عفاف السلول (60 عامًا) نزيف ذاكرتها مع الحديث عن أسرتها وشهر رمضان، فأضافت: "لم يتبق لمنة سوانا أنا وجدّها المريض، وقد استشهدت أسرتها، وعدد كبير من أعمامها وعماتها وأسرهم في الغارة نفسها وفي غارات أخرى خلال الحرب".
خضعت منة لعدة عمليات جراحية من أجل إنقاذها وإبقائها على قيد الحياة، واضطر الأطباء لقص واستئصال جزء من عظام الساقين، وبحسب حديث الجدة عفاف لـ "نوى"، فإنها بحاجة لعمليات زراعة عظم في مستشفيات خارجية، لتتمكن من السير على قدميها، والعودة التدريجية لحياتها.
وتراهن الجدة على الزمن من أجل تعافي ذاكرة حفيدتها، التي لا تستوعب حتى اللحظة أنها ستواجه العالم وحيدة لبقية حياتها، وتقول: "حلول شهر رمضان لأول مرة عليها بدون أسرتها ضاعف من حزنها ومن آلام جروحها وكسورها، حيث لا تتوقف عن استحضار ذكرياتها القديمة، وتقضي وقتها مع نفسها في الرسم وصناعة مشغولات فنية ورقية".
                
            
                                                                    





















