غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
أوقعت الحرب الإسرائيلية المستعرة منذ نحو 15 شهرًا، زهاء مليونين و300 ألف نسمة من سكان قطاع غزة في "آتون كارثة بيئية"، سعت "إسرائيل" من خلالها لتدمير كافة مقومات الحياة، من بشر وحجر وشجر.
الهدف الرئيس الذي تتبناه دولة الاحتلال، في ظل حملة الموت التي تشنها هناك، جعل القطاع منطقةً غير قابلةٍ للعيش.
خلال عام 2024م، شهدت البيئة في قطاع غزة، ضربات قاصمة، طالت ركائزها كلها، من هواءٍ وماء وتربة! الهواء الذي يتنفسه القابعون تحت النار رذاذ ركامٍ وانبعاثات سامة تطلقها الصواريخ والقنابل المنفجرة.
التربة تشبعت ببقايا البارود، وتغلغلت سمومه إلى آبارها الجوفية المتهالكة أصلًا.. انتشرت الأوبئة على نطاق واسع، لا سيما وسط تجمعات النزوح غير المؤهلة، التي تحيط بها أطنان الركام، وجبال النفايات، وبرك الصرف الصحي التي فاضت، وخلقت من تلك البؤر مكاره صحية وبيئية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
من بين ضحايا "الحرب البيئية"، كان الطفل محمد سمحان (3 سنوات ونصف)، وحيد والدته آلاء أبو جامع، التي تنقلت به من مكان إلى آخر، بحثًا عن علاج للالتهاب الرئوي الحاد الذي أصابه بسبب استنشاقه انبعاثات صادرة عن الصواريخ والقنابل الإسرائيلية قبل نزوحه من بيته في بلدة بني سهيلا، شرقي مدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، وفق تشخيص أطباء.
تقول أمه: "بدأت الأعراض بسخونة شديدة وسعال حاد، وقد عرضته على عدة مستشفيات ميدانية ونقاط طبية ولكن من دون جدوى. واستمرت حالته الصحية في التدهور حتى استشهد الشهر الماضي".
ويؤكد الدكتور أحمد الفرا رئيس أقسام الأطفال ومدير مبنى التحرير للأطفال والولادة بمجمع ناصر الطبي بخان يونس، جنوبي قطاع غزة، أن هناك الكثير من الأمراض التي رصدها الأطباء وتعاملوا معها وترتبط بشكل مباشر بالحرب وتداعياتها البيئية، "وعلى رأسها الالتهابات الرئوية، التي تصيب الأطفال على نحو كبير وملحوظ".
وبحسب الفرا، فإن الملاحظ في حالات إصابة الأطفال بالالتهابات الرئوية، عدم استجابتها للعلاجات والمضادات الحيوية. يقول: "الكثير من هذه الحالات تحتاج للجراحة واستئصال الجزء التالف من الرئة وتقشيرها، وإزالة الأنسجة الليفية التالفة الناجمة عن هذه الالتهابات، وهذا ما يعد صعبًا في ظل انهيار المنظومة الصحية بشكل كامل داخل القطاع".
وما يؤدي إلى زيادة حالات الإصابة بالالتهابات الرئوية الحادة، بحسب الدكتور الفرا، أن جهاز المناعة لدى الأطفال الغزيين في أدنى مستوياته بسبب نقص التغذية، ناهيكم عن أن الصواريخ الإسرائيلية لا تتوقف، "وهي تحتوي على مواد سامة، وآثار لليورانيوم المنضب، وتصيب جسم الإنسان بإشعاعات تؤثر على جهاز المناعة بشكل سلبي، كما أنها تشكل عبئًا على الرئتين وكفاءة الجهاز التنفسي عمومًا".
ويزداد الواقع سوءًا جراء تلوث مياه الشرب والمياه الخاصة بالنظافة الشخصية والعامة، ومنع الاحتلال إدخال مواد التنظيف والمعقمات، والتسبب في انتشار الأمراض وصعوبة السيطرة عليها.
أوبئة وأمراض جلدية
وفي ترجمة واقعية لتشخيص الدكتور الفرا، وفي ساحة مدرسة حكومية مجاورة لمجمع ناصر، تجلس الثلاثينية هند أبو فسيفس -النازحة من بلدة عبسان الكبيرة شرق خانيونس- ومن حولها أطفالها الثمانية، وتتملكها الخشية عليهم من أمراض معدية، بعدما أصيبت رضيعتها علياء (6 شهور) بمرض جلدي حرمها النوم من شدة الألم.
كان تشخيص الأطباء، بأن المرض نتيجة "فايروس" ينتشر عبر الجو، بسبب الازدحام الشديد في خيام النازحين ومراكز الإيواء، ووصفوا لها علاجًا اضطرت إلى شرائه من صيدلية خاصة بعد عناء شديد بالبحث عنه.
ودأبت منظمة الصحة العالمية على التحذير المتكرر من أن الظروف في القطاع، تخلق البيئة المثالية لانتشار أمراض معدية.
ومنذ نحو ربع قرن -قبل بدء الإبادة- لم تسجل أي إصابة بفايروس شلل الأطفال في القطاع، وكانت على الدوام اللقاحات المضادة متوفرة، "لكن هذه الحرب غير مسبوقة، وقد دمرت كل مقومات الحياة والبنية التحتية، وتسببت في ظهور أمراض وعودة أمراض قديمة، مثل الأمراض الجلدية المعدية كالجرب، والكبد الوبائي، وشلل الأطفال" وفقًا لمدير المستشفيات الميدانية الدكتور مروان الهمص.
وفي أواخر أغسطس الماضي اكتشف ولأول مرة منذ 25 عامًا، أول إصابة بشلل الأطفال في غزة، وكانت للرضيع عبد الرحمن أبو الجديان (10 شهور).

تقيم أسرة عبد الرحمن في أحد مخيمات النازحين غربي مدينة دير البلح وسط القطاع، ووفقًا لوالدته نيفين، فإن رضيعها أصيب بالشلل في الجزء السفلي من ساقه اليسرى، وفق نتائج العينة التي أرسلت إلى الأردن.
وأرجع الأطباء السبب -والحديث لها- للظروف المزرية المحيطة بخيمتها، من تلوث ومياه صرف صحي ونفايات، وانعدام المياه النظيفة والطعام الصحي. تتساءل بحرقة: "بعد أن أخبروني أن لا علاج لطفلي. هل سيبقى حاله هكذا؟".
النفايات وعوادم السيارات
وتتركز "جبال النفايات العشوائية" في منطقة المواصي، غربي المنطقة الجنوبية، في خانيونس ورفح، حيث استحدث النازحون مكبات عشوائية للنفايات عقب النزوح الكبير من مدينة رفح في مايو الماضي، وباتوا يواجهون بسبب ذلك مخاطر بيئية وصحية كارثية.
يأتي ذلك في الوقت الذي تعجز فيه البلديات عن القيام بمهامها بسبب الحصار المطبق، ومنع إدخال الوقود اللازم لتشغيل ما تبقى من آليات ومعدات لديها، فيما دمر الاحتلال الكثير منها في إطار عمليات الاجتياح البري.
منع الاحتلال منذ اندلاع الحرب طواقم البلديات من الوصول إلى مكبات النفايات الرئيسة الواقعة في مناطق متاخمة للسياج الإسرائيلي شرقي القطاع.
ويمنع الاحتلال منذ اندلاع الحرب طواقم البلديات من الوصول إلى مكبات النفايات الرئيسة الواقعة في مناطق متاخمة للسياج الأمني الإسرائيلي شرقي القطاع، الأمر الذي تسبب بتراكم النفايات في مكبات عشوائية تنشر الروائح الكريهة والأمراض بين السكان والنازحين.
"والله هذه ليست حياة بشر"، بهذه الكلمات عبر النازح السيد ريحان عن معاناته وأسرته، جراء انتشار الروائح الكريهة والحشرات والقوارض في منطقة المواصي.
ونزح ريحان (47 عاما) من بلدة جباليا شمالي القطاع عقب اندلاع الحرب، وتنقل بأسرته (7 أفراد) مرارًا قبل أن يضطر لنصب خيمة قرب أطنان النفايات المتاخمة لجامعة الأقصى، غربي مدينة خان يونس، حيث تعد مرتعًا للذباب والبعوض والحشرات، والحيوانات الضالة والقوارض.
يقول: "الأمراض تنتشر بين النازحين، خاصة الأمراض التنفسية والمعوية والتهاب الكبد الوبائي، وأخشى أن تصيبنا. العلاج هنا ليس سهلًا بسبب الحرب والحصار".
وبحسب الدكتور الهمص فإن غالبية المراجعين للهيئات الصحية الميدانية، طلبًا للعلاج هم من الأطفال وكبار السن، وغالبيتهم يشكون من الإصابة بأمراض كالإسهال والتقيؤ وارتفاع درجات الحرارة.
ويشكو النازح الستيني نضال شعث من عدم قدرته على التنفس السليم، ويرجع السبب للروائح الكريهة المنبعثة من مكب النفايات، وكذلك من عوادم السيارات التي تستخدم الزيوت بدلًا من الوقود.
ومنذ نزوحه من منزله في بلدة النصر برفح في مايو/أيار الماضي، ولجوئه مع أسرته لخيمة بالقرب من مكب النفايات في مواصي خان يونس، يشعر شعث بالهزال الشديد، ويتساءل وهو يشير بيديه إلى جبال النفايات المنتشرة على امتداد البصر: "من وين نتنفس هواء نظيف مع هالزبالة؟ وكمان السيارات بتزيد الطين بلة من دخان الزيت".
ويقول سائق اكتفى بذكر كنيته "أبو سامي": "كلنا بالهوا سوا"، ويتساءل: "يعني أنا مبسوط بعيشتي وطول اليوم في السيارة رايح جاي أتنفس زيوت محروقة وزبالة ومجاري (صرف صحي) منتشرة بكل مكان؟!".
واضطر أبو سامي وغيره من سائقي الأجرة، وجلهم يعملون على سيارات قديمة، إلى استخدام زيوت الطعام المكررة (السيرج) بديلًا عن الوقود لتشغيل سياراتهم، في ظل الحصار الحاد والقيود الإسرائيلية على إدخال الوقود.
وبالنسبة لهذا السائق الخمسيني فإن "العمل على السيارة المتهالكة هو مصدري الوحيد لإطعام أطفالي السبعة" يعقب.
مستنقعات المجاري
وبسبب الحصار وشح الوقود، علاوة على الدمار الهائل بالبنية التحتية، تنتشر في كثير من مناطق القطاع "مستنقعات" من مياه الصرف الصحي، تشكل بيئة خصبة للحشرات والبعوض، وتفوح منها روائح كريهة.
ويشكو نازحون من ديدان وحشرات متنوعة وخطرة باتت تزحف وتخترق الخيام.
ووجدت النازحة المريضة بالسرطان سناء أبو العيش (58 عامًا) نفسها أمام معاناة تزيد من أمراضها، وهي التي اضطرت للنزوح 7 مرات، وأصيبت خلالها بحساسية شديدة بالصدر، جراء استنشاق غبار ومخلفات الاحتلال.
هذه المرأة أرملة شهيد منذ 21 عامًا، وتعيل أسرة كبيرة، وفقدت أحد أبنائها شهيدًا خلال الحرب، وترعى أرملته وأطفالهما الخمسة، واضطرت للنزوح بهم من رفح عشية الهجوم البري، واضطرت للنزوح في قاعة شبه مدمرة في الملعب البلدي بخان يونس، وتقول "إن رائحة البارود تفوح منها"، وعلى مقربة منها تتجمع بركة من المجاري.
وفي حالة مشابهة، يقول النازح علاء حسين (50 عامًا) إنه يعاني من سرطان الرئة، وانقطع عن العلاج بسبب عدم توفر الأدوية، ويضطر حاليًا إلى استخدام "بخاخة" تساعده على التنفس، بسبب معاناته من الغبار الناجم عن دمار الشوارع والمباني، وكذلك الدخان المنبعث في النيران التي يستخدمها النازحون في ظل نفاد غاز الطهي.
دمار شامل وممنهج
وتثبت بيانات هيئات محلية ودولية أن الاحتلال انتهج سياسة تدمير منتظمة وواضحة ضد كل مكونات البيئة في القطاع، ويقول نائب مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان سمير زقوت: "إن الهدف هو جعل القطاع طارد لسكانه بتحويله إلى منطقة مدمرة ومنكوبة وغير قابلة للحياة".
"وكيف يحدث ذلك؟" يجيبنا الخبير البيئي أ.د.عبد الفتاح عبد ربه، بضرب أمثلة عدة من هذه الحرب التي يصفها بالحرب البيئية، التي تفوق آثارها المدمرة آثار الزلازل.
د.عبد ربه: "الدمار في قطاع المياه ويتجاوز 70% من البنية التحتية للمياه".
يقول: "الدمار في قطاع المياه ويتجاوز 70% من البنية التحتية للمياه، وقد تراجعت قدرة السكان في الحصول على كميات كافية، وانخفض معدل وصول المياه إلى منازل السكان بشكل ملحوظ، لا سيما النازحين في الخيام ومراكز الإيواء، وغالبًا ما يصطفون في طوابير طويلة وبشكل يومي للحصول على بضع لترات من المياه، لا تكفي للشرب والنظافة والاستخدامات الأخرى، فضلًا عن كونها غير معقمة بشكل كاف، نتيجة منع الاحتلال دخول مادة الكلور".
ومن هذه الآثار أيضًا، بحسب الدكتور عبد ربه، وهو أستاذ العلوم البيئية في الجامعة الإسلامية بغزة، "استهداف قطاع النفايات، سواء السائلة وهي الصرف الصحي، أو الصلبة وهي نفايات المنازل والمنشآت والمستشفيات وركام المباني المدمرة"، موضحًا أن الحرب فعليًا عمقت من أزمة مياه الصرف الصحي.
يشار إلى أن السكان كانوا يعتمدون على (87) محطة للصرف الصحي تعمل في مختلف أرجاء القطاع: (5) محطات مركزية، و(80) محطة مخصصة لعمليات الضخ، "لكن قوات الاحتلال دمرت حوالي 80 إلى 100 كيلو متر طولي من خطوط شبكات نقل مياه الصرف الصحي بين تدمير كلي وجزئي، ودمرت محطات المعالجة المركزية الخمس، وحوالي (45) مضخة دمرت كليًا أو جزئيًا، بينما دمرت أكثر من 5 آلاف متر طولي من شبكات مياه الأمطار والمياه السطحية، بجانب القنوات والمناهل وغيرها" يشرح.
وتعرضت الشبكات المتبقية للانسداد نتيجة الركام، ما تسبب في طفح مياه الصرف الصحي في الشوارع، وداخل بعض مراكز الإيواء، وتجمعت في برك كبيرة من مياه الصرف، وسط اضطرار النازحين للحركة من خلالها، ما تسبب في انتشار الأمراض والأوبئة، وفقًا للدكتور عبد ربه.

ويصرّف النازحون خاصة في الخيام الصرف الصحي ومياه الاستخدام اليومية من خلال الحفر الامتصاصية السطحية ذات العمق الذي لا يتجاوز الأربعة أمتار من سطح الأرض، وبمجرد امتلائها تُحفر حفر جديدة.
يوضح ذلك بقوله: "تتواجد آلاف الحفر بالنظر إلى وجود آلاف الخيام المنتشرة في القطاع، وتظهر خطورة هذه الحفر في المناطق ذات الطبيعة الرملية كالمواصي، التي تكون ذات نفاذية عالية، ما يتسبب في تسرب مياه الصرف الصحي للخزان الجوفي بشكل سريع من خلال حقن مباشر للفضلات البشرية والصرف الصحي، ما يسهم في انتشار الأمراض والأوبئة في مياه الخزان الجوفي، ويسهم في انتشار الحشرات والقوارض في المنطقة، ويتسبب في كارثة بيئية".
وإزاء ذلك اضطرت جهات الاختصاص إلى زيادة ضخ مياه الصرف الصحي إلى البحر، أمام عجزها عن التعامل مع الكميات الكبيرة منها، ودون معالجة، حيث تقدر الكميات غير المعالجة التي تصل البحر، بأكثر من 130 ألف متر مكعب يوميًا، ما أحدث مشكلة بيئية حقيقية، خاصة مع لجوء النازحين لشاطئ البحر وإقامة خيامهم على رمال الشاطئ، فلم يطل تلوث رمال البحر المصطافين فقط، بل طال الآلاف من السكان النازحين.
ووفق آخر الفحوصات التي أجرتها وزارة الصحة وسلطة المياه وجودة البيئة لشاطئ القطاع في العام 2023م، وصلت نسبة التلوث إلى (70%) من الطول الكلي للشاطئ، الذي يمتد طوله إلى 40 كيلو مترًا.
وبحسب تقرير بعنوان "إبادة البيئة" صدر في سبتمبر/أيلول الماضي، عن وحدة الأبحاث والمساعدة الفنية بمركز الميزان لحقوق الإنسان، يتوقع مع استمرار حرب الإبادة، وفي غياب الفحوصات الرسمية، أن تصل نسبة تلوث مياه البحر لنحو (85%) وربما أكثر، ما سينعكس على البيئة البحرية وعلى السكان الذين يدخلون البحر كالصيادين والمنقذين البحريين والراغبين في السباحة، وعلى المصطافين على الشاطئ الذي يعدُّ الملاذ الوحيد للعائلات، إضافة إلى من يفترشون رمال الشاطئ ويقيمون خيامهم عليها في ظل تكدس أعداد النازحين وعدم وجود أماكن خالية للتخييم.
"الغزيون ينتجون حوالي 2000 طن يوميًا من النفايات الصلبة، التي تشكّل مشكلة حقيقية، إذا ما لم يتم التخلص منها بطرق سليمة تحافظ على البيئة والصحة العامة".
وفي خصوص النفايات الصلبة، يقول عبد ربه إن "الغزيين ينتجون حوالي 2000 طن يوميًا من النفايات الصلبة، التي تشكّل مشكلة حقيقية، إذا ما لم يتم التخلص منها بطرق سليمة تحافظ على البيئة والصحة العامة حتى في ظل الحرب".
ويوجد في القطاع مكبين رئيسيين فقط، هما: مكب جحر الديك في مدينة غزة، ومكب الفخاري في خان يونس، مع وجود العديد من المكبات المؤقتة والعشوائية والكثير من نقاط التجميع، وحتى قبل الحرب تعاني هذه المكبات من مشكلات عدة، بسبب ممارسات الاحتلال، ومنع توسعة المكبات الحالية أو إقامة مكبات جديدة، وبسبب منعها دخول الآليات والمعدات اللازمة لإدارة تلك المكبات وتطويرها .
"يقدر إجمالي كميات النفايات المتراكمة في القطاع خلال الحرب بأكثر من (710) آلاف طن من النفايات المتنوعة كنفايات المنازل والمخلفات البشرية ونفايات الصرف الصحي، والنفايات الطبية الخطرة".
ويقدر إجمالي كميات النفايات المتراكمة في القطاع خلال الحرب بأكثر من (710) آلاف طن من النفايات المتنوعة كنفايات المنازل والمخلفات البشرية ونفايات الصرف الصحي، والنفايات الطبية الخطرة، تتواجد في (190) مكب عشوائي مؤقت غير مؤهل، تنتشر في مناطق القطاع، ومعظمها بين السكان وفي الأحياء السكنية وعلى مقربة من مراكز الإيواء ومخيمات النازحين.
ويشكل تراكم هذه النفايات سببًا رئيسًا لانتشار الأمراض والأوبئة والحشرات والقوارض، وهي مشكلة بيئية تهدد سكان القطاع وتهدد المستقبل البيئي.
وبحسب بيانات مركز الميران لحقوق الإنسان، فإن قوات الاحتلال دمرت ما مجموعه (141) آلية، و(3876) حاوية، من منظومة النفايات الصلبة في القطاع.
وانهارت منظومة النفايات في البلديات، وانتشرت المكبات العشوائية حتى داخل مراكز الإيواء، بسبب انخفاض عدد العاملين في مهنة جمع القمامة جراء نزوحهم، وصعوبة حركة من تبقى منهم نظرًا للخطر الشديد، واستحالة الوصول إلى المكب الرئيس في جحر الديك، وانهيار شركات القطاع الخاص للنظافة التي كانت تسند البلديات، وتدمير آليات جمع ونقل النفايات، ونقص الوقود اللازم لحركة الآليات المتبقية.
كما أفرز استهداف البنية التحتية والمنشآت والمباني المدنية من منازل وبنايات سكنية ومدارس وجامعات ومستشفيات وغيرها، كميات هائلة من الركام، وتختلط نفايات الهدم والركام بكميات كبيرة من النفايات الخطرة بمختلف أنواعها خاصة المتفجرة، ويتفق الدكتور عبد ربه مع تقديرات خبراء دوليين بأن "إزالة ونقل الركام يحتاج إلى عدة أعوام من العمل، ومن ثم إعادة تأهيل وإعمار المناطق المدمرة".

وحتى سبتمبر الماضي، أشارت المعلومات إلى أن الناتج عن المباني المدمرة يقدر بـ 26 إلى 36 مليون طن من الركام ومخلفات الهدم والردم، التي حسب التقديرات تحتاج من 10 إلى 15 عامًا لإزالته، خاصة وأن إزالة هذه المخلفات يحتاج إلى خطة، لأن هذه المخلفات تحتوي على جثث ومواد خطيرة ونفايات، وقد تكون هناك متفجرات وألغام وأجسام غير منفجرة.
وتؤكد الدراسات أن هناك انبعاثات ناتجة عن هدم المباني، مثل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، تسهم بشكل كبير في تغيّر المناخ.
وتفيد المعطيات الميدانية لهيئات محلية أن هناك الآلاف من الجثث لمدنيين قصفت منازلهم وانهارت على رؤوسهم، ولم تتمكن الطواقم المختصة من انتشالهم منذ شهور بسبب ضعف الإمكانيات وتواصل القصف، ما يعني أن الجثث قد تحللت، وكانت سببًا في تلوث الهواء والتربة، وسببًا في انتشار الأوبئة.
التربة في عين الاستهداف
وألحقت الحرب دمارًا واسعًا بتربة القطاع، انعكس سلبًا على الواقع الزراعي، وفقًا للدكتور عبد ربه، وتضاعفت معاناة المزارعين والعاملين في المهن الزراعية، بعد أن تضرروا بشكل مباشر نتيجة تدمير ممتلكاتهم ومحاصيلهم الزراعية، وعدم تمكنهم من الوصول إلى حقولهم ورعاية مزروعاتهم وجني المحاصيل، وعدم تمكنهم من سقايتها ورعايتها بالأسمدة اللازمة، وعدم توفير الأعلاف اللازمة للحيوانات والطيور أو العقاقير البيطرية.
كما طال الاستهداف الحقول والدفيئات الزراعية، وتسبب في خسائر كبيرة بالمزروعات والتربة والمستلزمات الزراعية، وأسهمت الحرب في تدمير كمية كبيرة من المبيدات والأسمدة والبذور والمستلزمات الزراعية، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها. وانخفضت كميات المنتجات الزراعية في الأسواق المحلية نتيجة لتدميرها، أو عدم التمكن من قطفها وحصادها، ما تسبب في رفع أسعارها بشكل كبير.
حسب تقديرات دولية فإن 90% من الغزيين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وهذا يشير إلى أن القطاع يعدُّ من أكثر المناطق مجاعة في العالم.
وتضررت أوجه الزراعة الحيوانية، حسب الدكتور عبد ربه، الذي أشار إلى إن الحرب ألحقت أضرارًا بالغة في مزارع الإنتاج الحيواني من مزارع الماشية ومزارع الطيور، جراء القصف المباشر للمزارع أو جوارها أو على مقربة منها، علاوة على أضرار غير مباشرة لحقت بتلك المزارع نتيجةً لعدم قدرة أصحابها أو العاملين فيها على الوصول إليها بسبب الخطر القائم؛ ما تسبب في نفوق أعداد كبيرة من الطيور والحيوانات ووقوع خسائر كبيرة مُني بها المزارعون، والقضاء التام على المزارع السمكية سواء من خلال تدميرها أو انقطاع التيار الكهربائي ونفاد المواد الضرورية للاستزراع السمكي أو تغذية الأسماك.
إن استهداف التربة والأراضي الزراعية يخلق حالة من التجويع المقصود والممنهج، وبحسب تقديرات دولية فإن 90% من الغزيين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وهذا يشير إلى أن القطاع يعدُّ من أكثر المناطق مجاعة في العالم، تبعًا للخبير البيئي الدكتور عبد ربه.
ومن العواقب المميتة، التي يمكن أن تشكلها المهددات البيئية، أنها قد تجعل غزة غير صالحة للسكن نهائيًا، فقد تتسرب المواد السامة ببطء إلى التربة، ما يؤدي إلى تكوّن خليط كيميائي من مواد عضوية قابلة للذوبان، ومكونات غير عضوية، ومعادن ثقيلة ومركبات عضوية غريبة، ينتج عنه تلويث الأراضي الزراعية والطبقة الجوفية، بينما تخترق المواد السامة في النهاية سلسلة الغذاء وتجد طريقها مرة أخرى إلى البشر، بحسب الخبير البيئي.
التلوث الهوائي
وتتسبب الحرب في تلوث الهواء، حيث تشير تقديرات الدفاع المدني إلى أن إجمالي القنابل والمتفجرات التي ألقاها الاحتلال على القطاع، تتجاوز 85 ألف طن، تسببت في تدمير 80% من البنية الحضرية، و90% من البنية التحتية.
ويؤثر دخان القذائف والصواريخ والرماد الناتج عن تدمير المنازل السكنية والمنشآت العامة والصناعية على الجهاز التنفسي للإنسان، خاصة تلك الجزيئات والجسيمات المتواجدة في مكونات الإسمنت، حيث تتراكم في الرئتين ما يؤثر على صحة الإنسان على المدى الطويل، ويؤدي إلى الإصابة بسرطان الجهاز التنفسي، ويضاعف من معاناة أصحاب الأمراض ذات المناعة الهشة، لا سيما الربو وغيره من الأمراض.

ويسهم التلوث الهوائي الناجم عن الاكتظاظ والازدحام، واستخدام الزيوت النباتية (السيرج) بدلًا من الوقود للسيارات والمركبات بأنواعها، وانتشار بقايا الأسلحة والذخيرة، في انتشار الأمراض والارتفاع الملحوظ في الوفيات بين صفوف كبار السن الذين يعانون من ضعف المناعة.
كما تسهم القيود المفروضة على دخول الوقود وغاز الطهي في تلوث البيئة، حيث يضطر السكان والنازحون إلى استخدام النيران في إعداد الطعام والخبز، فيحرقون الحطب والأخشاب والمخلفات البلاستيكية والورقية، ما يُنتج الأدخنة والمواد الملوثة للهواء. يترافق ذلك مع عودة أصحاب المركبات لاستخدام (السيرج) كوقود لمحركات السيارات ما ينجم عنه انتشار الدخان الضار وتلوث الهواء، وانتشار الأمراض لا سيما أمراض الجهاز التنفسي.
تداعيات وانتهاكات
ويترتب على استهداف مكونات البيئة الطبيعية والتلوث الناجم عنه، آثارًا كبيرة ومخاطر متعددة صحية وبيئية وكذلك على التنوع الحيوي، بحسب الخبير عبد ربه، وبحسب هيئات متخصصة فإن الحرب تسببت في تدمير حوالي 80% من البنية التحتية للقطاع الصحي، والسكان على شفا كارثة وبائية وبيئية، نتيجة تفشي الأمراض الطارئة المنقولة بالماء أو التنفس.
"تدمير مكونات البيئة كلها أو جزء منها من شأنه أن يُفضي إلى خلق ظروف معيشية قاسية تتسبب بالتدمير الكلي أو الجزئي لأية جماعة"، بحسب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.
وتعدُّ الإبادة البيئية أحد صور الإبادة الجماعية، بحسب نائب مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان سمير زقوت، لما تؤدي إليه من تأثيرات خطيرة على سلامة الجماعة واستدامتها، حيث أن تدمير مكونات البيئة كلها أو جزء منها من شأنه أن يُفضي إلى خلق ظروف معيشية قاسية تتسبب بالتدمير الكلي أو الجزئي لأية جماعة، بحسب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها الصادرة عن الأمم المتحدة 1946م، التي أُدرجت من بين صور جريمة الإبادة الجماعية عند تعريفها لها، بموجب الفقرة (ج) من المادة الثانية؛ "إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا".
وتعدُّ الإبادة البيئية من بين جرائم الحرب الواردة في نظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، وفلسطين طرف موقع عليه، ويعدُّ "إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك وبالمخالفة للقانون وبطريقة عابثة، أحد صور جريمة الحرب"، وفقًا للحقوقي زقوت.
                
            
                                                                    
                                            




















