غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
تحت سقف الصالة الرمادي يحوم ضجيج الذكريات. "لمّة العيد" بين جدرانٍ ملونة مبهجة، لا تشبه جدران هذا البيت في غربةٍ نهشت القلب ذات حرب.
على أريكةٍ في شقته المستأجرة بالعاصمة المصرية "القاهرة"، يُقلّب كامل عياد وأسرته صور الهاتف المحمول، بينما تزدحم في القلب المشاعر. يبتسمون، والدمع في أعينهم، كلما مروا على لقطاتٍ تحمل ضحكاتهم في عيد الميلاد المجيد، الذي كانوا يحيونه في كنيسة القديس "برفيريوس" بمدينة غزة.
عيّاد، واحد من بين 1000مسيحي، حرمهم الاحتلال الإسرائيلي الأمان في وطنهم، وأفقدهم أهلهم وأقاربهم، وألغى فرحة عيدهم للعام الثاني، تحت نيران "الإبادة".
يعود الرجل بذاكرته لما قبل الحرب المسعورة، وعبر سماعة الهاتف، تَسمعُ في صوته الشوق والألم في آن. يقول: "في مثل هذه الأوقات كنا في مدينة غزة، نحضر أنفسنا وبيوتنا لنستقبل العيد".
يصمت لثانية ويتنهد قبل أن يُكمل: "نشتري شجرة الميلاد وزينتها وأضواءها، ونحضر الهدايا لنقدمها للأهل والأصدقاء، نزين الكنيسة، ونؤدي طقوسنا الدينية، ونشاهد مسرحية الميلاد بحضور بابا نويل الذي يدهش الأطفال بتقديمه الهدايا والشوكولاته، ثم نخرج إلى ساحة الكنيسة على أصوات قرع طبول الكشافة، بينما يصدح اسم فلسطين، ويرفرف علمها عاليًا".
عاش كامل في أوج الإبادة، حتى أفقدته الصواريخ الإسرائيلية عددًا من أهله وأحبته في مجزرة كنيسة "القديس برفيريوس"، التي ارتكبها الاحتلال في أكتوبر/ تشرين أول للعام 2023م، لِيلُملم بعدها وأسرته ذكرياتهم في حقيبةٍ كانوا يشتهون أن تسبقهم يومًا إلى بيت لحم، للصلاة في كنيسة المهد، إلا أنها اختارت طريقًا آخر.. طريق النجاة المؤقت من حربٍ لم تُبقِ ولم تذر.
يخبرنا: "غادرتُ غزَّة لكن روحي معلقة فيها، وقدوم العيد يزيد من شوقي وافتقادي لها (..) لستُ مرتاحًا بالبعد عنها، في العام الماضي احتفلتُ بكنيسة مصرية، ودعوتُ كثيرًا لتتوقف الحرب، من أجلنا.. من أجل أطفالنا، ومن أجل كل فلسطيني يعاني تحت النار".
ويزيد: "ما في فرحة أبدًا.. نحاول أن نتخطّى الأيام فقط من أجل أطفالنا الذين عاشوا أهوال الحرب، وكي نحافظ قدر المستطاع على تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا بالأعياد".
ولم تسلم الكنائس والمؤسسات المسيحية في قطاع غزة من الاستهداف المباشر، منذ أكثر من 15 شهرًا مضت، بدءًا بمبنى المستشفى الأهلي المعمداني، ومجمع كنيسة القديس بيرفيريوس، والمركز
الثقافي والاجتماعي العربي الأرثوذكسي، مدرسة الراهبات الوردية، وكنيسة العائلة المقدسة، ودير راهبات المحبة، وجمعية الشبان المسيحية، وغيرها.
وعن أبسط الأمنيات يقول عياد بحرقة: "كل قلوبنا وأمنياتنا وصلواتنا لأجل انتهاء الحرب، ولأجل عودة الناس إلى بيوتها ومدنها التي نزحت منها قسرًا".
ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، ارتقى 22 شهيدًا مسيحيًا من بين أكثر من 42 ألف شهيد، فيما أصيب أكثر من 50 باستهداف كنيسة "برفيريوس"، في حين تعمد الاحتلال قنص أم وابنتها داخل أسوار كنيسة العائلة المقدسة، وإصابة 7 مسيحيين، في الوقت الذي تُوفي فيه نحو 15 شخصًا بسبب نقص الموارد الغذائية والطبية.
ووفقًا لمدير لجنة الطوارئ في الكنيسة الكاثوليكية بغزة، جورج أنطون، فإن كافة المظاهر الاحتفالية بالميلاد أُلغيت هذا العام أيضًا، "إلا من الصلوات والطقوس الدينية داخل الكنيسة وحسب".
ويقول لـ"نوى": "بالعادة تبدأ الاحتفالات مع انتصاف شهر ديسمبر، وتستمر حتى منتصف يناير. هذا لم يحدث العام الماضي، ولا هذا العام، إذ لا يمكن أن نفرح بينما هناك من يفقد ابنه، وأهله، وبيته، وشقاء عمره".
ويشير إلى أن مسيحيي غزة في الأعوام السابقة، كانوا يسافرون إلى بيت لحم؛ للاحتفال بكنيسة المهد، "حيث ولد المسيح"، مضيفًا: "نجتمع هناك مع الأهل والأحبة في الضفة الغربية، نصلي معًا لأجل وطننا كاملًا، وندعو بالأمن والسلام".
ويستدرك: "هذا كله اليوم حلم نعيشه. نحن الآن ننتظر فقط أن تنتهي الحرب".
ويتابع بقهر: "نحن غير قادرين حتى على تعويض الأطفال عن فرحة العيد الماضي. ليس هناك شيء نشتريه. حتى الحلوى والشوكولاته مفقودة!"، موضحًا أن الكبار يحاولون قدر الإمكان، شرح الواقع لهم. "يحاولون إقناعهم بأن الحال لن يبقى على ما هو عليه، وأن الحرب ستنتهي، وسنحتفل بالميلاد يومًا في أرضنا الآمنة" يكمل.
يستقبل الأطفال -وفقًا لأنطون- الميلاد بالصلاة فقط، ويشاركون الكبار طقوسهم الدينية، وأيضًا في تحضير مغارة الميلاد، التي ترمز لمكان ميلاد المسيح ببيت لحم، مردفًا: "نحضرها معهم داخل الكنيسة ليشعروا بفرحة العيد".
ويبقى "الميلاد" بارقة أمل تشرق في ليل الحرب، هنا صلاةٌ ودعاءٌ برفع الغمة، ومناداةٌ لعالمٍ أصم، لعله يلتفت للغارقين في الموت فوق أرض قطاع غزة.