غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"سأنام الليلة جائعة" قالتها هلا عصفور لخطيبها محمد سلامة في مكالمة هاتفية مساء يوم عمل شاق، وبرغم أنه يعيش الحال ذاته، إلا أنه تعالى على "أوجاع معدته"، وتغافل عنها قلقًا على صحة مخطوبته.
هلا ومحمد، صحفيان شابان، يجمعهما ميدان عمل لا تتوقف فيه ملاحقتهما لأخبار الموت والدمار، وحكايات الألم والجوع، الناجمة عن حرب إسرائيلية مستعرة متواصلة للعام الثاني على التوالي، وقيود مشددة على دخول المساعدات الإنسانية، نجم عنها مجاعة فتكت بزهاء مليوني إنسان شمالي قطاع غزة وجنوبه.
كانت هلا تعلم أن محمد نفسه يشعر بالجوع، في ظل أزمة خبز حادة تعصف بالجنوب، وقد أغلقت غالبية المخابز أبوابها، بفعل شح الطحين، لكنها تقول لـ "نوى": "عندما أخبرته بجوعي لم يخطر ببالي أن كلماتي ستحرمه النوم، ولكن ما فعله أكثر رومانسية من كل كلمات الحب والتعابير العاطفية".
نامت هلا (23 عامًا) ليلتها، فيما انتظر محمد (24 عامًا) بصبر وشوق كبيرين بزوغ فجر ذلك اليوم، وانطلق نحو المخبز الوحيد في مدينة خان يونس جنوبي القطاع، لعله يظفر بـ"ربطة خبز".

من أجل هذه الربطة قضى محمد ساعات داخل طابورٍ طويل، وسط تدافعٍ كبيرٍ من رجال ونساء وأطفال، وفيما كان الكثيرون يعودون بكفوفٍ خاوية، فإن محمد كان من المحظوظين وحصل على "ربطة الخبز"، التي كانت أول هدية منه لخطيبته هلا.
كانت هلا في خيمة النزوح مع ذويها عندما اتصل بها محمد: "ألو.. مرحبا، وينك؟ تعالي أحضرت لك هدية"، وبلهفةٍ وفضول ارتدت هلا ملابسها، والتقت بمحمد في سيارة العمل.. أغمضي عينيك طلب منها، وعندما فتحتهما وجدته يمسك بربطة خبز: "أحضرتها لك هدية".
ارتسمت ابتسامة على وجه هلا. وتقول: "التقطتُ منه ربطة الخبز وقد سقطت دمعة من عيني، "وأنا أقول في نفسي هذه أول هدية منذ خطوبتنا، وأغلى هدية في زمن الحرب والمجاعة".
وأدركت هلا ما كابده محمد من أجل توفير هذه "الربطة الهدية" لها، عندما أخبرها أنه أخفاها في "شنطة المعدات الصحفية"، ليضمن أن تصل لها، ولا يتعرض لأي إحراج فيهدرها ويضيع جهده وتعبه في سبيل الحصول عليها.
احتضنت هلا ربطة الخبز، وطالبت محمد بالتقاط صورة لها نشرتها على حساباتها على منصات التواصل الاجتماعي، وقد انتشرت بسرعة كالنار في الهشيم، ونالت آلاف الاعجابات والتعليقات، فهي لمن هم في خارج القطاع غريبة. أن يهدي الحبيب محبوبته ربطة خبز، لكن هلا تقول: "هذه أغلى هدية في حياتي وستبقى في ذاكرتي للأبد".
"اشتهيتُ الأندومي، وكان مقطوعًا. بحث عنه طويلًا حتى وجده بسعر يساوي ستة أضعاف سعره الطبيعي قبل الحرب، جلبه لي وكانت من أحلى الهدايا وأبهاها".
وفرضت الحرب الإسرائيلية على الغزيين طقوسًا غريبة وغير معتادة في مناسباتهم وحتى هداياهم المتبادلة فيما بينهم، وفيما تغيب كليًا مراسم العزاء، والموت يفترسهم على مدار اللحظة، اختفت الأفراح وحفلات الزفاف إلا من بعض المراسم البسيطة، وكذلك تبدلت الهدايا التقليدية كالمجوهرات والورود والملابس وتولدت أخرى من رحم المجاعة.
وتزوجت ملك أبو شاويش (24 عامًا) حديثًا، بحفل زفاف تصفه بأنه "متواضع"، واقتصر على الأهل والمقربين فقط، وتخبر "نوى" أنها تقيم مع زوجها عبد الله في غرفة داخل منزل ذويه الذي تعرض لتدمير كبير أثناء الاجتياح الإسرائيلي لمدينة خان يونس.
وتضحك عندما سألناها عن أول هدية من زوجها، وتقول لـ "نوى": "أخبرته بأن نفسي بالأندومي، وكان مقطوعًا من السوق، لكنه بحث كثيرًا عنه حتى وجده في سوق جامعة الأقصى".
تقول ملك إنه "اشترى كيسًا بستة شواكل، بينما سعره الطبيعي لا يزيد على شيكل واحد في الوضع الطبيعي".
وبالنسبة لملك فإن الهدية على بساطتها، لمست بها "الحب" من زوجها، الذي بحث طويلًا حتى يحقق لها ما ترجوه، وسط ظروفٍ بائسة فرضتها الحرب والحصار، وحرمت أهل غزة من أبسط الأشياء والاحتياجات، والحياة الطبيعية.
أما سماهر منصور (29 عامًا) فتقول لـ "نوى" "إن أغلى الهدايا التي تلقيتها في الفترة الأخيرة كانت "عبوة من زيت الزيتون"، وكانت هدية من خطيبي، الذي تمتلك أسرته بضع شجرات من الزيتون".
لم تثمر هذه الشجرات الكثير هذا العام، بسبب تداعيات الحرب، وعدم الاهتمام بها لخطورة المنطقة في شرقي منطقة القرارة شمالي خان يونس.
مر نحو شهر منذ أن أهدى أحمد خطيبته سماهر عبوة الزيت، التي لم تفتحها ولم تستخدمها، بل تحتفظ بها كأغلى هدية تلقتها في ظل الحرب والحصار، حيث تعيش الغالبية من الغزيين أوضاعًا مأساوية بسبب المجاعة وشح السلع والبضائع والارتفاع الجنوني على الأسعار في الأسواق.
وتعمقت مأساة الغزيين في جنوبي القطاع مع إعلان المفوض العام للأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) تعليق استلام وإيصال المساعدات الإنسانية من خلال معبر كرم أبو سالم، بسبب القيود الإسرائيلية، وسطو عصابات اللصوص عليها.
كما أوقف المطبخ المركزي العالمي عملياته في القطاع، عقب مقتل عاملين محليين معه باستهداف غارة إسرائيلية لسيارة تابعة له كانت ترافق شاحنات مساعدات.
ويقول نائب المفوض العام للهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان أمجد الشوا: "إن قراري أونروا والمطبخ العالمي يشيران لخطورة الواقع الإنساني في جنوبي القطاع كما في شماله، وينبغي على المجتمع الدولي إعلان القطاع كله منطقة مجاعة، وتتهدد سكانه كارثة إنسانية محققة".
                
            
                                                                    
                                            




















