شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاثنين 29 ابريل 2024م21:10 بتوقيت القدس

"ملوخية" رمضان.. حربٌ أخرى!

13 مارس 2024 - 00:57

شبكة نوى، فلسطينيات: رشا أبو جلال

التجول في طرقات سوق رفح المركزي وسط المدينة جنوبي قطاع غزة، محتضنًا بين ذراعيك حزمة من الملوخية بات أمرًا ملفتًا للأنظار إلى حد كبير. فهذه النبتة الخضراء الشهيرة في الوطن العربي، طيبة المذاق، الغنية بالفوائد، باتت نادرة الوجود في قطاع غزة رغم زيادة الطلب عليها بشكل كبير خلال شهر رمضان المبارك.

ما أن استيقظتُ في أول أيام رمضان، حتى برز في ذهني التساؤل الذي يدور في ذهن جميع الأمهات عادةً.. ماذا سنفطر اليوم؟ هل سأذهب إلى "مدينة اللحوم" لشراء اللحوم أو الدواجن؟ أم لعلي سأزور "حسبة السمك" لنرى ماذا جهز لنا الصيادون من خيرات الله.

فجأةً استيقظ عقلي الباطن على واقعنا الذي نعيش، كنازحين خارج مدننا وشوارعنا وأحيائنا التي عرفناها، بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، المستمرة منذ السابع من أكتوبر الماضي.

تذكرتُ حينها أن كافة الأماكن التي بدرت إلى ذهني سابقًا باتت رمادًا وركامًا بفعل الحرب، واصطدمتُ بالحقيقة التي نعيشها منذ نحو ستة أشهر، وهي أن لا شيء يتوفر في الأسواق سوى المعلبات التي تصلنا كمساعدات طارئة.

قاطعت ابنتي الصغيرة البالغة من العمر (١٢ عامًا) حبل أفكاري، وسألتني: "أمي، ماذا سنعد لطعام الإفطار"، فقلت: "امممم دعينا نستشير والدك"، وكان جوابي بمثابة إلقاء حمل ثقيل عن كاهل، لعل زوجي يجد إجابة مقنعة لسؤال فتاتي الصغيرة.

قال زوجي بعد تفكير: "ملوخية"، سألته: "ملوخية على ماذا؟"، فأجاب بسخرية: "على لحمة إكسترا"، لم ترق لي هذه الدُعابة فأنا في حيرةٍ من أمري، والوقت يمضي بسرعة دون أن يمنحني المزيد من الفرص للتفكير.

قلت: "وليكن ذلك، سأذهب بنفسي لشرائها من السوق".

ارتديت عباءتي سريعًا واصطحبت ابنتي معي. في رحلتي إلى سوق رفح وسط المدينة، وقفت على جانب الطريق لعل سيارة تأخذني إلى حيث أريد.. مرت خمس دقائق، عشر، خمس عشرة دقيقة دون مرور واحدة، الوقت يمضي أسرع من أي وقت مضى، ولم أعد أعلم كيف سينتهي هذا اليوم.

"زززززززز.."، صوتُ طائرة الاستطلاع (الزنانة) المرتفع شلَّ تفكيري، كان صوتها قريبًا بما يكفي لعدم سماعي لصوتي. هنا قاطعني صوت جرس عربة "كارو" مرت من أمامي.

"هاااي، مهلاً"، صرخت بقوة على سائقها، كان طفلًا صغيرًا لا يتعدى الرابعة عشر من عمره، سألني "إلى أين؟"، فأجبته: "الكراج الشرقي" إلى حيث سوق رفح.

بدأت جولتي في السوق، بحثًا عن الملوخية. أنظر يمينًا ويسارًا فلا أجد أمامي سوى المعلبات التي فقدنا شهية أكلها منذ زمن بعيد.

بدأ اليأس يتسلل إلى قلبي، شدت ابنتي الصغيرة يدي وأشارت إلى مجموعة من الناس يتجمهرون حول شيءٍ ما، وقالت: "أمي، لنرى ماذا هناك لعلنا نجد الملوخية"، وبالفعل كان الناس يتزاحمون حول بائعٍ يبدو في العشرينيات من العمر ويبيع هذه النبتة الخضراء.

لقد كان مشهدًا سرياليًا. نحو (٣٠ شخصًا) يتجمعون حول حزمةٍ من الملوخية لا يتجاوز وزنها خمسة كيلو جرامات، وجميعهم يصرخون في وجه البائع أملًا في أن ينال شيئًا منها. ثوانٍ قليلةٍ مرّت فإذا بالكمية تنفد، وانفض معظم الناس دون أن يحظوا بشيء منها.

قالت لي ابنتي: "أمي، لعل الأمر يتطلب بعض الصراخ منك من أجل لفت انتباه البائع إليك"، نظرتُ إليها ممتعضة، وقلت: "لم يعد لدي قوة لفعل أي شيء. دعينا نمضي لعلنا نجد بائعًا غيره".

توغلنا في السوق أكثر فأكثر، لا يوجد ملوخية، أين ذهبت هذه النبتة التي لطالما كانت تعج بالأسواق في مثل هذا اليوم من كل عام؟

مرة أخرى شعرت باليأس من أن أجد الملوخية، وفجأة برَزَ أحدهم قابضًا بين يديه حزمة. هنا بدأ الأمل يتسلل إلى قلبي.

سألته: "يا أخ، من أين اشتريتها؟"، فأجابني: "في نهاية السوق"، سألتُه مجددا "أين تحديدًا في نهاية السوق" فقواي لم تعد قادرة على البحث، فأجاب بسخرية لم أستطع تفسيرها: "ستعرفين بمجرد وصولك إلى هناك".

لم أعرف ماذا قصد تحديدًا لكنه مضى في حال سبيله، وأنا أحسده على انتهاء معاناته بحثًا عن الملوخية، وهي معاناة تبيَّنَ أنها لم تبدأ بعد بالنسبة لي.

قبضتُ كفي بشكل أكبر على كف ابنتي، وتسارعت خطواتنا للوصول إلى الهدف المنشود. شعرتُ بنوعٍ من التحدي مع ذاتي، وباتت مسألة الحصول على الملوخية مسألةَ حياةٍ أو موت، أو بمعنى آخر أكون أو لا أكون.

كلما كنتُ اقتربُ أكثر من نهاية السوق، كنت أشاهد أناسًا أكثر يحملون بين أيديهم حزم الملوخية، أصبحَ الأملُ يتزايد أكثر فأكثر، قلتُ لابنتي: "شدي رجلك أكثر ماما، لقد قاربنا على الوصول"، وما أن وصلنا حتى كانت الصدمة.

أصبت بحالةٍ من الشلل، ولم تعد قدماي قادرتان على المشي أكثر، بسبب ذلك المشهد.. كان هناك جبل من البشر يتجمعون حول بائع، قلت بصوت خافت محدثة نفسي: "هل يقومون بضربه؟ لا، إنهم يحاولون شراء الملوخية!".

ذهبتُ ببطءٍ شديد وكأن الأمر لم يعد مهمًا بالنسبة لي، فهذا الازدحام البشري حول البائع، قتل داخلي كل أمل في الحصول عليها. كان الناس يحملون بأيديهم أموالهم، ويتوسلون البائع كي يبيعهم الملوخية، كانوا يريدون شراءها بأموالهم وليس الحصول عليها هبة أو مساعدة.

كان البائع في حيرةٍ من أمره، فما لديه من ملوخية لا يكفي لتلبية حاجة أقل من ثلث هذا الكم من الناس! المضحك المبكي هنا، أن الناس كانوا يضطرون لتقديم مبررات للبائع من أجل الحصول على الملوخية! سمعت إحداهن تقول: "أريد ملوخية لإطعام أطفالي الأيتام"، وسمعت آخر يقول: "صديقي مصاب في المشفى ونفسه بصحن ملوخية"، فيما تذرع آخر لتبيان حاجته الماسة في الحصول على الملوخية بالقول: "زوجتي حامل، وتتوحم على الملوخية!".

فجأة، نفد صبر البائع ولم يعد يستطع التعامل أكثر مع هذا السيل البشري الذي يحيط به، فقام بالقبض على حزم الملوخية لديه وحملها فوق ظهره، وأخذ ميزانه بيده، وهرب.

نعم لا أمزح، هرب البائع من بين الناس، وقال لهم صارخًا "الملوخية مبيوعة"، فيما الناس يركضون وراءه أينما ذهب، بعضهم كان يكيل عليه السباب والشتائم، وبعضهم ما زال يتبنى لغة الرجاء والتوسل، والبائع يطير بجناحيه من بينهم يحاول الخلاص.

هنا شعرت أنني وسط فيلم درامي لن أتركه وراء ظهري دون معرفة خاتمته وكيف انتهى! مضيتُ قدُمًا وراءَ الناس أقتفي أثر بائع الملوخية، بعضهم أصابه اليأس بعدما لم يعد يعرف أين ذهب، ولحسن الحظ سلكت طريق حفنةٍ أخرى من الناس الذين لم يضيّعوا أثره.

وجدنا بائع الملوخية أخيرًا، كان يختبئ وراء شاحنةٍ كبيرة، ما أن رآنا حتى عاد للصراخ مجددًا، "قلت الملوخية مبيوعة"، اقتربنا منه بحذر نحاول تهدئته دون أن يهرب مرة أخرى.

قال رجل مسن يبدو عليه الحكمة للبائع: "عليك أن تهدأ. لقد انصرف معظم الناس، وعليك أن تبيعنا الملوخية لأن من يطعم الناس يدخله الله جنات الفردوس نزلًا".

بدأ البائع يعود إلى رشده، وقال: "راح أبيعكم، بس بديش صراخ عشان ما تلموا الناس علينا"، تعهد الناس بفعل ذلك، وبالفعل بدأ يبيع الملوخية مجددًا بخفية وبصوت خافت، كما لو كان يتاجر بالمخدرات.

أخيرًا، لقد حققتُ حلمي، حصلت على الملوخية، لقد دفعت ٣٠ شيكلًا مقابل حزمة تزن أقل من كيلو ونصف بقليل، هذه الحزمة كانت تباع بأقل من أربعة شواكل قبل الحرب.

قفلت عائدة وأنا أطير من الفرح، لقد أمسكتُ بحزمة الملوخية كمن يخشى ضياع جوهرةٍ بين يديه، وحدّثتُها في ذهني "لقد حصلت عليك وأخيرا".. ولكن مهلًا، إذا كان يداي الاثنتين تقبضان على الملوخية، فأين ابنتي التي كنت أُمسك بيدها طوال هذه المغامرة؟

هنا أدركت الحقيقة المرة، لقد ضاعت ابنتي مني بين زحام الناس، وأنا منشغلة في تقفي أثر البائع عندما هرب من الناس.

لحسن حظي، كنت قد اتفقت مع ابنتي أنه في حال تهنا عن بعضنا، فالتجمع عند الكراج الشرقي، وبالفعل قفلت عائدة إلى حيث اتفقنا أملًا في العثور عليها.

طوال رحلة العودة، كان يجب عليَّ أن أجيب على أسئلة عشرات الناس في السوق "من أين الملوخية؟"، "كم ثمن الكيلو؟"، حتى أن إحداهن عرضت علي شراء حزمتي من الملوخية بضعف الثمن أي بستين شيكلًا!

لم أهتم لكل هذا الجنون، مضيتُ قدمًا أسابق الريح بحثًا عن ابنتي التي وجدتها أخيرًا عند النقطة المتفق عليها.. حمدتُ الله كثيرًا. لقد كانت سعادتنا مضاعفة، سعادة العثور على بعضنا، وسعادة الحصول على الملوخية الملوكية.

اخبار ذات صلة
كاريكاتـــــير