شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الجمعة 19 ابريل 2024م04:28 بتوقيت القدس

للعمل المؤسساتي في فلسطين قِبلتان.. ورحمٌ قطَعهُ "إيرز"

15 يناير 2023 - 13:50

قطاع غزة:

المشهدُ بدا عاديًا بالنسبة لنزلاء أحد الفنادق بمدينة اسطنبول التركية. لكنه بالنسبة لمنى خضر كان "لحظةً من الجنة". تركَت مقعدَها في البهوِ فجأةً، وهروَلَت تطوي الأرض نحو الباب بمجرد أن لمحت طرف وجهها، ثم صرَخت بنبرة مَن استبدّ بقلبه الحنين: "سندُس.. أخيرًا يا سندس".

منى هي منسّقة مكتب مؤسسة "فلسطينيات" الإعلامية النسوية في قطاع غزة، وسندس فقيه، هي المنسقة الإدارية للمؤسسة في مقرها الرئيس بمدينة رام الله في الضفة الغربية، والمسافة بين البقعتين لا تحتاج لأكثر من ساعةٍ ونصف الساعة في سيارة! لكن الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، المستمر منذ 16 عامًا، حرمهما من التواصل وجاهيًا لسنواتٍ طويلة، وجعل من دولٍ أخرى أقرب بكثيرٍ من مسافةٍ بين مدينتين في وطنٍ واحد.

لا تبعد مدينة غزة سوى 82 كيلومترًا عن مدينة رام الله، وهي ذاتها المسافة التي تحرم منى وسندس وعشرات الموظفين العاملين في مؤسسات محلية ودولية من اللقاء لسنواتٍ طويلة، وتبقيهم رهينة التواصل الإلكتروني، بظروفه الصعبة لا سيما في قطاع غزة، حيث الجيل الثاني من الإنترنت، والكهرباء التي تعتمد جدول فصلٍ مساوٍ لجدول الوصل، يزيد وينقص بحسب كميات الوقود التي تسمح "إسرائيل" بمرورها إلى القطاع يوميًا.

تقول منى: "هذا اللقاء روى شوقًا عمره سنوات، أنا وسندس لم نلتقِ منذ وقتٍ طويل إلا عبر الإنترنت، وحتى عندما تقدمت بطلب تصريح زيارة للضفة، رفض الاحتلال إعطائي إياه".

تؤثّر اللقاءات عبر "زووم" أو "الفيديوكونفرنس" على فعالية التواصل وفق منى، وتسبب خللًا في وضوح الرسالة، لا سيما مع ضعف الإنترنت.

وتنفذ "فلسطينيات" برامج عدة، أبرزها شبكة "نوى" الإعلامية، ونادي المناظرات، وهي واحدة من نحو 4616 مؤسسة مجتمع مدني في فلسطين، 42% منها في الضفة الغربية، و31% منها في القطاع، و11% في القدس، و14% خارج فلسطين، و2% في الداخل الفلسطيني المحتل.

تتابع منى: "برامجنا كافة تحتاج إلى تواصلٍ وجاهيٍ بين أعضاء الفريق، وهذا ما لا يحدث - للأسف - حتى في مناظرات طلبة الجامعات. نضطر إلى إجراء دوريٍ في قطاع غزة وآخر في الضفة لاستحالة جمع الفِرق على مستوى فلسطين... تمكّنا من ذلك مرةً واحدة فقط، وبصعوبةٍ بالغة. كان ذلك عام 2018، ولم نتمكن من ذلك ثانيةً حتى اللحظة".

وتضيف: "نلجأ لخدمة البريد السريع من أجل إرسال الأوراق إلى مقرنا في رام الله، وهذا يكبّدنا وقتًا وجهدًا، وتكلفة مالية إضافية أيضًا".

زميلتها سندس تشير بدورها إلى الوسائل البديلة في التواصل "التي تؤدي الغرض، لكن تشوبها مشاكل تؤثر على جودة إدارة النقاش، وأحيانًا إتمام الفكرة، أو إيصالها بالشكل المطلوب". تضيف: "تسعى المؤسسة إلى أن لا يؤثر هذا على جودة المخرجات، وهذا واقع يصعب تجاوزه، أما السندات المالية فتصل عبر البريد لأن المقر الرئيس في رام الله، ويجب أن تكون الأوراق الأصلية هناك، وهذا يعطّل كثيرًا الإجراءات التي نحتاج إلى إتمامها".

منذ سنوات، لم تحظَ سندس بزيارة قطاع غزة. وتضيف بحسرة: "لا أذكر أني التقيت زميلاتي أكثر من ثلاث أو أربع مرات منذ أن بدأنا العمل هنا قبل نحو 12 عامًا. ليس سهلًا الحصول على تصاريح لزيارة غزة، وحتى عندما نفكر خارج الصندوق باللقاء في دولةٍ أخرى، يبدو الأمر معقدًا بالنسبة لأهل القطاع بسبب صعوبة التنسيق للسفر"، متابعةً بانفعال: "هذا مؤلم. حتى في احتفالاتنا البسيطة، نُحرمُ من أن نكون سويًا".

وتستذكر سندس زميلات لها، عملن في المؤسسة لفترات معينة، ولم تلتقِ بهنَّ أبدًا. "إحداهن عملت معنا عامًا ونصف، لكنها انتقلت للعمل في مؤسسة أخرى، استطاعت من خلالها - عبر مهمة عمل - زيارة الضفة، وهنا رأيناها لأول مرة في مكتبنا زائرة، بعد انتهاء مشروعها بعامين".

الأمور تبدو أصعب في "اتحاد لجان المرأة"، فالاحتلال الإسرائيلي اتهمها العام الماضي بـ"الإرهاب"، فضاق عليها أفق العمل أكثر، وبات التواصل الوجاهي بين أفراد طاقمها في الضفة وغزة ضربًا من ضروب الحلم.

تقول تغريد جمعة، المديرة التنفيذية للمؤسسة في غزة: "وسائل التواصل الإلكترونية سهّلت الأمر، لكنها غير فعالة، فأحيانًا لا نكون على علمٍ بمن يدير النقاش، وأحيانًا ينقطع الاتصال، وأحيانًا لا تكتمل عبارة المتحدث فيضيع المقصود منها، ويبدو طلب تكرار الحديث محرجًا، وهذا منطقيًا يؤثر على جودة الرسالة".

تعمل في الجمعية محاسِبتان، إحداهن في الضفة والثانية في غزة، تُجريان - بحسب تغريد - عشرات الاتصالات لإتمام معاملةٍ واحدة، "قد لا تحتاج لدقائق لو كانتا معًا"، متسائلةً باستهجان: "فما بالكم لو تحدثنا عن حدث أو نشاط كبير على مستوى الوطن؟".

وتتابع: "أنا محرومةٌ من زيارة الضفة، وقد التقيتُ بعض زميلاتي مرةً واحدة في تركيا. بكينا حينما تعانقنا، فمن يصدق أن تركيا أقرب إلى غزة من رام الله؟".

مواقف كثيرة مرت بها زميلات تغريد وودّت لو كانت إلى جوارهن فيها. تقول: "اعتقلت زميلتي، وأُفرج عنها، وأنا بعيدة لا أملك من أمري شيئًا. هنأتُها بواسطة الهاتف، لكني لم أشعر بأن عاطفتي أُشبعت في ذلك الموقف أبدًا".

زارت تغريد الضفة الغربية آخر مرة عام 1999، وبرغم أنها زارت سبع دولٍ أوروبية بعدها، إلا أن الشوق لمكانٍ تركتَ قلبك فيه يختلف" تؤكد.

زميلتها، مديرة الاتحاد التنفيذية في الضفة الغربية، تحرير جابر، أكدت أن الهدف الاستراتيجي للمؤسسة يكمن في الحفاظ على وحدتها مهما كانت الصعوبات، "من خلال مجلس إدارة واحد، وخطة استراتيجية واحدة، ومشاريع واحدة. لكن هذا يتحقق بصعوبةٍ بالغة بسبب التواصل الإلكتروني" تقول.

ليست ظروف العمل وحدها ما يؤلم تحرير، فهي صديقةٌ لتغريد منذ زمنٍ بعيد، ولم تتمكن من لقائها قبل اليوم. وتخبرنا: "خالتي أيضًا تعيش في غزة، وتغريد تزورها باستمرار، لكن أنا محرومة. لدي خالة أخرى في القدس يبعد بيتها عن بيتي 10 دقائق، لكن لا أستطيع زيارتها". تتنهّد طويلًا قبل أن تكمل: "حتى عندما توفيت ابنتها، عجزتُ عن مواساتها وجاهيًا. هل هناك ألم أكبر من هذا؟".

"شؤون المرأة" أيضًا مؤسسة نسوية لم يتمكن طاقمها منذ عام 2000 من اللقاء بسهولة، بل إن بعضهم لم يلتقِ زملاءه في الشق الآخر من الوطن أبدًا.

"هذا العام، اختتم الطاقم مشروع "قرار مستقبلي"، الذي استمر لمدة ثلاث سنوات دون فرصة لقاء" يقول ناهض خلف منسق المشروع في قطاع غزة.

ويضيف: "العام الأول للمشروع تصادف مع جائحة كورونا، ولهذا كان التواصل عبر زووم، الذي لطالما وصلت عبره الرسائل ناقصة، أو مقطّعة بسبب ضعف الإنترنت هنا، فضلًا عن مشكلة جدول الكهرباء الذي يختلف بين منطقةٍ وأخرى في قطاع غزة". يضيف: "عندما احتاج الطاقم إلى جلب بعض الأشياء من الضفة لإتمام المشروع، لم يتمكن من ذلك بسبب منع الاحتلال دخولها، والحجة غير المنطقية جاهزة: ازدواجية الاستخدام".

ويكمل: "قررنا أن يكون اختتام المشروع في رام الله، وقدمنا طلب تصاريح لـ 40 اسمًا من خلال جهة دولية. وافق الاحتلال فقط على 16 ولم أكن بينهم"، متابعًا: "زوجتي رغدة التي كانت من ضمن المتدربات حالفَها الحظ، ذهبَت والتقت بزميلاتي في الضفة. كان عزائي فقط أنها أوصلت تحياتي ومحبتي للجميع هناك".

زميلته إيمان نزال منسقة المشروع في الضفة، تذكر أنهما كانا يعقدان اجتماعاتهما عبر الفيديو كونفرنس، أو عبر الهاتف الذي يفعّلّانه عبر خاصية "السبيكر"، ويضعانه وسط الطاولة، وحديثًا اعتمدا "زووم".

على مدار 24 عامًا من عملها، لم تتمكن إيمان من زيارة غزة، برغم أنها تقدمت بطلب تصريح مرات عدة. تعقّب: "ما نمرُّ به قاسٍ جدًا، منذ نحو 20 عامًا أنا زميلة لبيسان ابنة غزة، لكنني لم ألتقِ بها أبدًا، وحتى عندما قدمت مجموعة من المشاركين في مشروعنا الأخير إلى الضفة لم تكن بيسان بينهم".

حاجزٌ عسكريٌ أقيم فوق أرضٍ مسلوبة، بحراسةٍ إسرائيليةٍ مشددة، يقطع رحم المؤسسات في فلسطين. لا يعرف الموظف في الضفة زميله في غزة إلا داخل صورةٍ مكسّرة بسبب ضعف الإنترنت، ولا يسمع صوته إلا متقطّعًا، ما يضطره إلى التركيز بقوة لفهم مغزى الكلام، ولملمة شتاته.

بين الضفة وغزة، تدير المؤسسات أعمالها بـ"معجزة الإرادة"، فلا خيار آخر سوى الاستمرار إلى حين النجاة من احتلال، يطبق على أدق تفاصيل الراهن والمستقبل هنا.

كاريكاتـــــير