شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الجمعة 29 مارس 2024م14:02 بتوقيت القدس

في بيوتٍ انطفأ دفئها.. طفولةٌ تُغتال تحت لسعات "حزام"

31 اكتوبر 2022 - 10:08

شبكة نوى، فلسطينيات: تقول جارتها "إن صوت طفلها يخترق قلبي. هو يصرخ، ويستحلفها بالله أن لا تضربه، وهي تزيد، وتطلب منه أن لا يصرخ"!

سنرمز لصاحبة الحكاية بالرمز (م)، وهي سيدة في بداية عقدها الثالث. لديها من الأبناء ثلاثة، و"تيم" أصغرهم، وهو ذو الحظ الأكبر من التعنيف -حسب جارتها- بين إخوته، كونه "كثير الحركة ومثل السعادين" كما تصفه أمه أمامها في كل مرة كانت تحاول التدخل لصالحه ونصحها بعدم ضربه بهذا الشكل الموجع.

عمر تيم 4 سنوات، "لكنه يتلقى ضربًا بالحزام، وبخراطيم المياه المهملة، وبالأحذية، وأحيانًا بشماعات الملابس البلاستيكية، لا يتحمله الكبير، ولأسبابٍ عادية يمكن أن تحدث لأي طفل بسنه، كأن يتبول على نفسه، أو أن يفتفت البسكويت على الأرضية التي مُسحت للتو، أو أن يمزق دفترًا لإخوته، أصحاب الحظ نفسه من التعنيف والضرب والإهانة".

تخبرنا الجارة التي طلبت أن نناديها (أم أشرف)، أنها تسمع في أحيان كثيرة صوت الصفعات تتهاوى على وجه الأم نفسها من قبل زوجها، وما بينها صرخات الأطفال الذين يرعبهم المشهد. وتكمل: "أنا لا أبرر أفعالها، لكنها ضحية".

زوج السيدة (م) يعمل عامل بناء "وفي أيام كثيرة نراه في البيت بلا عمل"، وهو معروفٌ في الحارة بعصبيته الشديدة، بالإضافة للديون المتراكمة فوق رأسه لدى صاحب البقالة، وصاحب البيت الذي يستأجره، "وغير ذلك من مصائب"، وهذا يعود بنا حسب السيدة راوية القصة إلى السبب الرئيس "حصار غزة"، وذلك التعليق العامي، العفوي، الملخّص للفكرة برمتها: "والله شبابنا غلابا، والله الزمن أتعبهم كثير".

لا مبرر للعنف ضد الأطفال، لكن هذه المعضلة تستشري في قطاع غزة المحاصر منذ نحو 16 عامًا، بما لا يدع مجالًا للشك بأن هذا العنف هو إفراز "غير طبيعي" لما يعيشه قطاع غزة من وضع اقتصاديٍ متردي، وبطالة مستشرية، وانسداد في الأفق.

وتعرف الأمم المتحدة العنف ضد الطفل، في تقريرها لعام 2006م، بأنه أي شكلٍ من أشكال العنف أو الأذى الجسديّ، أو النفسيّ، أو الإهمال بأشكاله، وسوء المعاملة، أو أيّ نوع من الاستغلال، كالإساءات الجنسية، فيما عرفته منظمة الصحة العالمية بأنه أي أيّ استعمال للقوة الجسدية عن سبق إصرار ضد الأطفال، بالتهديد أو بالفعل من قِبَل فردٍ أو مجموعة من الأفراد، والتي تؤدي بدورها إلى ضرر بصحة الطفل، أو التأثير في تطوره النمائي، أو تهديد حياته في بعض الأحيان.

ويعد العنف ضد الأطفال شكلًا من أشكال انتهاك حقوق الإنسان، وذلك كما نَصَّت اتفاقية حقوق الطفل في المادة رقم 19 من قبل الأمم المتحدة، فيما لا يعي كثيرون داخل قطاع غزة، تأثير أسلوب التعامل على نفسية الطفل، ونموه، وسلامته العقلية والجسمانية والنفسية، تمامًا كما يحدث مع "محمد" الطفل الذي تحدثت معلمته فاطمة محمد عن سلوكياته داخل الصف، "التي تصنف كتبعات لواقعه العائلي".

تقول: "الطفل في الصف عنيف جدًا، ولسانه سليط. دائم السب والشتم لزملائه، والمفاجأة أنه يكذب كثيرًا، وهذا بطبيعة الحال خوفًا من العقاب"، متابعةً: "لطالما جاء إلى المدرسة مزرق الوجه، ولما كنتُ أسأله عن السبب يخبرني بخجل: وقعت عن الدرج، لأكتشف فيما بعد أنها حجة أوصاه والده بالحديث عنها، بينما هو في الحقيقة مضروب بهمجية".

بالرجوع إلى حياته الأسرية،  محمد هو أكبر أخويه، ويبلغ من العمر 8 أعوام، "وهو فشة خلق أبوه" كما تصفه المعلمة. يبدو في الغرفة الصفية انطوائيًا، مهملًا، لا يكترث لنجاح أحدهم، أو تفوقه، أو حتى التصفيق له، "وحتى أمه للأسف تهمله، فيأتي بلا حل للواجب ولا مذاكرة للامتحانات".

تشير المعلمة إلى أنها تكلمت أكثر من مرة مع والده بشأنه، وكان مبرره دومًا: "هينا تربينا بنفس الطريقة، وما شاء الله علينا طلعنا رجال"! معلقةً بالقول: "هو غير مدرك لأنه نفسه يعاني من مشاكل وعقد نفسية كثيرة".

كان أصعب ما رأته المعلمة في قصة تلميذها ابن الصف الثالث، أنه جاءها يومًا يلف ساقه بقماشة واضحة تحت بنطاله ويعرج، ولما سألته أجابها باكيًا، بأن أمه في بيت أهلها منذ أسبوع، ولما طلب المصروف من أبيه أحمى سكينًا على النار وأحرق ساقه حتى انسلخ جلده. تدمع عينها وهي تتمتم: "تخيلوا أنه لف ساقه بيده! لا أستطيع استيعاب الموقف. لقد كبر هذا الطفل قبل أوانه، وكره الحياة قبل أن يعيشها".

وفي بيت "ريم" (15 عامًا)، وكما إخوتها الأربعة، تعاني وأمهم معهم من العنف الأبوي. تتساءل الفتاة على مسامع "نوى": "لماذا علينا عندما يدخل أبي إلى البيت أن نخاف؟ لماذا على أمي إن كانت تجلس مرتاحة، أن تقف وتتظاهر بأنها تنظف البيت النظيف أصلًا، ولماذا عليها أن ترتعد لمجرد سماع صوته يناديها؟".

والد الفتاة الخمسيني، لا يدرك أن هذا الزمان غير زمان والده وجده، ويتعامل وفق أساليب التربية القديمة، "الضرب بالحزام، والوقوف في الشمس، ورفع الأيدي والأرجل على الحائط لما يزيد على الساعة، وغير ذلك".

تضيف: "أخي عمره 12 سنة، وهو الآن في مرحلة المراهقة، ويا للأسف بدأ تعامله معنا ومع أمي ينتحي نفس المنحى. يظن أنه هكذا يكون الرجال، فيضرب إخوتي الصغار، ويتعامل مع أمي بصراخٍ دائم، وهذا يعني أن جيلًا جديدًا سينشأ من تحت يديه بنفس الطباع ونمط التفكير، وأن أطفالًا جدد سيتعذبون بعد قرابة عقد. سيتعذبون مثلنا، وسيخرجون كما خرجنا ليتحدثوا إلى الصحافة عن عذاباتهم مع من يفترض أن يكون الحامي والداعم والسند".

وبالرجوع إلى بينات الجـهـاز الـمـركـزي لـلإحصاء الـفلسطيني فإن 9 من بين 10 أطفال ما بين العمر 1 إلى 14 سنة تعرضوا للعنف البدني أو النفسي، في حين تعرض  (90.1%) للعنف البدني و/ أو النفسي في العام 2019/2020، من قبل مقدمي رعاية الأطفال (يشمل الأب والأم، والمسؤولين عن رعاية الطفل في حال كان بعيدًا عن الأب والأم)، حيث كانت النسبة الأعلى في قطاع غزة؛ إذ بلغت 92.3% مقارنة مع 88.3% في الضفة الغربية.

تعقب الأخصائية النفسية في برنامج غزة للصحة النفسية آيات أبو جياب على القضية بالقول: "إن الكثير من الأعراض الجسدية التي تبدو ظاهرة، مثل الكدمات والحروق، يمكنها أن تساعد في الكشف عن تعرض هذا الطفل للعنف المنزلي، لكن الأضرار النفسية تستمر لفتراتٍ أطول بكثير من تلك الكدمات"، منبهةً إلى أن العنف المنزلي لا يقتصر على العنف الجسدي فقط، بل يشمل الإساءة اللفظية، أو العاطفية، أو الجنسية.

وتعدد الأخصائية النفسية مخاطر العنف الأسري الذي يمكن أن يصبح سلوكًا مكتسبًا لدى الطفل المعنف، ويفرغه على أقرانه في المدرسة، أو حتى إخوته الأصغر منه سنًا، "وهو ما يعني أن دائرة العنف ستبقى مستمرة".

ويؤدي العنف إلى سلوكيات سيئة، مثل الكذب والسرقة، والالتفاف على أصدقاء السوء، وضعف التحصيل الدراسي، وفق أبو جياب، "في حين قد يصبح الطفل المعنف شخصًا ضعيف الشخصية، غير قادر على اتخاذ قرار، أو مواجهة الآخرين" تضيف.

وتكمل: "الأخطر أن هذا الطفل سيصبح نسخة مكررة عن معنفيه، ويمارس العنف عندما يكبر على كل من هم أكثر ضعفا منه، وقد يؤدي في بعض الأوقات للانتحار.

كما تحذر أبو جياب من أن الأطفال الذين يتعرضون لعنف جنسي، يصبحون عرضة للانتهاك والاستغلال الجنسي بسبب ضعف وهشاشة شخصيتهم، وسيصبحون عنيفين جنسيًا تجاه الآخرين في المستقبل.

وترى أبو جياب أن الحل يتطلب تكاتف الجهود من أجل إقرار قانون حماية الأسرة، والسعي لتأسيس بيت أمان للقاصرين والقاصرات ضحايا العنف الأسري، والعمل على فصلهم عن الآباء المعنِّفين.

وتورد أبو جياب طرقًا لمساعدة هؤلاء الأطفال وتأمين الحماية لهم من هذا العنف، كتوفير المشورة والمساعدة من الأشخاص المختصين، ومناقشة كل المواقف التي يمكن أن يمروا بها، وتعليمهم طرق تجنبها مستقبلًا، وتشجيعهم على التعبير عن مشاعرهم، وطمأنتهم، وإشعارهم بالأمان.

وترى أبو جياب أن الأوان قد آن، لأن تعمل المؤسسات على تفعيل الإبلاغ الإلزامي حال الحصول على أي معلومة بتعرض قاصر للعنف، من أجل العمل على وقف هذه الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال.

كاريكاتـــــير