غزة– أميرة نصَّار:
"كان جدّي يصحبنا كل يوم جمعة، كي نرى القطار، حيث كان ينطلق من محطة رفح ثمّ يمرّ من خانيونس ودير البلح، والبريج، إلى أن يقف في محطة غزّة، سوق البسطات حاليًا" هذا ما ترويه الحاجة أم محمود الطنّة 70 عامًا وهي تستذكر قطار السكّة الحديد الذي عاصرة وجوده في صغرها.
وتقول: "كان منزلي قريب من السكّة الحديديّة، كنت أسمع صافرات القطار واحتكاك عجلاته، ولم أتردد في الذهاب بكل موسم إلى استقبال الحجّاج وتودعيهم عند السكّة، وأذكر أن القطار كان يعمل بالفحم الحجري، ثم بالديزل".
تضيف الطنّة والابتسامة تغمر محياها: "كان القطار مقسمًا إلى درجة أولى وثانية وأخرى ثالثة يتجمّع حولها المغادرين إلى مصر ويقيمون حفلة من "طبل وغناء" كحفلة وداع لهم، وليخففوا من حدة وطول المسافة أيضًا". وعن تذكرة القطار وعمله، تتابع: "كنا ندفع سبعة قروش مصرية, وثلاثة قروش ونصف للصغار, ينطلق في الصباح، من غزة إلى القاهرة، ويصل العصر إلى غزة وهكذا".
عدنا بالطنة إلى قبل سبعين عام في الفترة الواقعة بين 1948 وحتى 1954حين كان القطار يعمل بالبخار، فالمحطة الرئيسيّة كانت في غزّة إلى جانب "جامع المحطة"، وتتحدّث: "كان يحتوي على 40 خط سكة حديد ليتم استخدامهم في الشحن والتجارة والركاب فهو وسيلة نقل ومواصلات وحلقة وصل مع العالم الخارجي" مشيرة إلى أن "الناس كانوا يأخذون الماء الساخن من المحطة لاستخدامه في الغسيل والاستحمام".
"كان القطار يمر بالجزء الغربي من مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة، حيث كان المواطنين يتوجّهون في الصباح الباكر، وساعات المساء لمشاهدته ووضع القطع الحديدية، وانتظار وصول القطار ليسحقها ويساويها، لنستخدمها فيما بعد كأدوات حادة وسكاكين" يتحدّث أبو حسام 50 عامًا، إذ كان يفعل ما وصفها بالـ "الحركات الصبيانيّة" بمشاركة رفاقه قبل عقود، كما يشير: "كان بعض الأصدقاء يكتبون أسماءً ورموز للفتيات اللاتي يحببنهم في مرحلة الشباب".
تعتبر فلسطين من أوائل الدول التي انشأت خطوط سكك الحديد في الشرق الأوسط حين كان الخط الرئيسي يمتد من القنطرة في مصر إلى حيفا، ومنها إلى بيروت، وكانت هناك فروع تخدم يافا والقدس وعكا وذلك حين أمر السلطان عبد الحميد الثاني بتشييدها.
يقول زكريا السنوار أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بالجامعة الإسلامية: "بدأت ألمانيا تنسج علاقة مع الدول العثمانية في مرحلة ضعفها ولتبدو بأنها صديقة طلبت منها أن تنشأ خطوط سكة حديد حيث منحتها الدولة العثمانية الامتيازات وأنشأت خط سكة في بلاد الشام وتم تأسيسه على عدة مراحل ليصل إلى مدينة غزة".
ويضيف: "خلال الحرب العالمية الأولى تحول خط السكة الحديد من نقل مدني للبضائع والأفراد، إلى عسكري وبدأت ألمانيا والدولة العثمانية بمد خطوط عسكرية لكي تخدمها في الحرب". متابعاً: "حينها بدأت بريطانيا تشعر بالخوف من كثرة خطوط السكة فكانت تتابع مع جواسيسها من الصهاينة من "مؤسسة نيل الاستخباراتية" برصد حركات القطارات وفيما بعد بدأت بريطانيا بمد جسور السكة فوق الجسور التي أنشأتها ألمانيا لتنشأ خطوطها البريطانية وتم السيطرة على كامل فلسطين".
وتعرضت السكة الحديد للتخريب بسبب الثورة العربية الكبرى وسقوط الدولة العثمانية بعد الحربِ العالميِة الأولى.
ويؤكّد غسّان وشاح رئيس مركز التاريخ الشفوي أن "الاحتلال الإسرائيلي هو المسؤول الأول عن تدمير خط السكة الحديد الذي استمر بالعمل حتى النكسة 1967عام لكن عندما احتلوا غزة قاموا بتجريف خطوط السكة لإقامة معسكراتهم الصهيونية"، وبذلك توقفت حركة القطارات بعد فرض السيطرة الإسرائيلية على قطاع غزة.
بدوره، يقول الحاج أبو ناهض علي 75 عامًا" "أتينا من البلاد بعد النكبة، حيث كانت السكة الحديد موجودة في غزة واسدود إلى أن توقف القطار عن العمل بعدما هجم النّاس على السكة وأخذو دوامر الحديد والخشب التي بيعت بأرخص الأثمان نظرًا للوضع الاقتصادي السيء, وآخرون بنوا منازلهم من هذه المواد بحكم صلابة ومتانة الحديد"، مضيفًا: "أثرها باق حتى اليوم في حي الزيتون وحتى شوارع القطاع بات محتفظة باسمها ليطلق عليه "شارع السكة".