غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في حي الرمال وسط مدينة غزة، وعلى شرفة منزلها المدمر جزئيًا بفعل الحرب، تجلس كفاح أبو فول (52 عامًا)، وتحرك يدها ببطء على سطح بابور كاز قديم أعادت إليه الحياة بعد سنوات طويلة من الإهمال في سقيفة المطبخ.
تقول لـ"نوى" وهي تنفخ على فتيلته حتى يشتعل: "هذا البابور خدم أمي وجدتي.. واليوم أنا أعتمد عليه بعد أن اختفى غاز الطهي من حياتنا".
أوقفت "إسرائيل" توريد المساعدات والبضائع والوقود وغاز الطهي لقطاع غزة، تهربًا من استحقاق المُضيّ في المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار.
منذ مطلع آذار/ مارس الماضي، أوقفت دولة الاحتلال الإسرائيلي توريد المساعدات والبضائع والوقود وغاز الطهي إلى قطاع غزة، تهربًا من استحقاق المُضيّ في المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في 19 من كانون ثاني/ يناير الماضي.
ومنذ ذلك الوقت، لم تدخل أسطوانة غاز إلى بيت أبو فول، مثل كافة سكان قطاع غزة. وجدت هذه السيدة نفسها مضطرة لإخراج البابور من مخزنه، ومسح الغبار الذي راكمه عليه الوقت، لتبدأ رحلة جديدة من الطهي على نار الكاز.
ذكريات من زمن الجدات
تبتسم أبو فول رغم ضيق الحال، وتقول: "كلما استخدمه، شعرت أنني عُدت طفلة، أعود إلى حين كانت أمي تعد لنا الفطور على هذا البابور. لم أكن أتخيل أني سأعود لاستخدامه، لكن الحرب أجبرتنا على الرجوع لكل شيء قديم، حتى أدوات الطهي".
تضيف: "بابور الكاز أثبت أنه قطعة من الماضي الحي، لكننا في ذات الوقت نشعر بالقهر كلما نظرنا إليه؛ لأنه يعكس إلى أي مدى تراجعنا وتقهقرنا كغزيين بفعل الحصار والدمار".
بابور الكاز الذي كان يُرمز له قديمًا بالفقر، بات اليوم عنوانًا للصمود. في غزة اليوم، عاد ليحتل مكانًا في القلوب والمطابخ، ليس كخيار، بل كضرورة.
تستخدم أبو فول هذا البابور في إعداد الشاي وتسخين الماء للاستحمام، وتقول: "هو ليس فقط أداة طهي، هو تحدٍّ للحرب، وللفقر، وللظلام.
بابور الكاز الذي كان يُرمز له قديمًا بالفقر، بات اليوم عنوانًا للصمود. في غزة اليوم، عاد ليحتل مكانًا في القلوب والمطابخ، ليس كخيار، بل كضرورة فرضتها ظروف الحرب وانهيار كل مقومات الحياة.
مطاردة الماضي.. للنجاة
بين الأزقة الضيقة في سوق الشيخ رضوان بمدينة غزة، يمشي الحاج أبو رامي مشتهى (61 عامًا) بخطى بطيئة، يلتفت يمينًا ويسارًا باحثًا عن شيء واحد فقط: "بابور كاز".
"قلبي يحترق في كل مرة أعود للبيت دون أن أجده"، يقول بنبرة متعبة لـ"نوى" قبل أن يضيف: "لم أكن أتخيل أني سأقضي أيامي أفتش عن بابور، كأنني أبحث عن كنز ضائع".
يعاني أبو رامي من الربو وضيق التنفس منذ أكثر من 20 عامًا. ومع اختفاء غاز الطهو وتوقف المولدات الكهربائية، حاول استخدام الحطب، لكنه لم يحتمل الدخان. "أشعلت النار يومًا واحدًا فقط، وبتّ ليلتها في حالة اختناق، بالكاد وصلت إلى المركز الطبي لأخذ جلسة تنفس" يخبرنا.
يشير الحاج أبو رامي إلى أن بابور الكاز كان شائعًا في بيوت غزة قبل دخول الكهرباء والغاز، "لكنه اليوم نادر الوجود".
ويتابع: "ذهبت إلى خمسة أسواق، وسألت عند كل بائع أدوات منزلية، وكلهم هزوا رؤوسهم: البابور مش موجود.. هذا من أيام زمان"، مضيفًا: "لو لقيت واحد حتى لو مكسور، بصلّحه.. المهم أطهو طعامي من غير ما أختنق".
"يوازي وزنه ذهبًا"
في سوق الساحة وسط مدينة غزة، يقف البائع سامر العجلة خلف طاولة خشبية قديمة، يعرض عليها بضع أدوات منزلية مستعملة، بينها بابور كاز واحد فقط. قطعة حديدية بلون نحاسي باهت، "لكنها اليوم تساوي وزنها ذهبًا" حسبما يصف.
"قبل الحرب، هذا البابور ما كان يجيب خمسة شواقل. محدش كان يسأل عنه أصلًا، كنا نرميه بالمخزن سنين طويلة"، يقول العجلة لـ"نوى"، وهو ينفخ الغبار عن سطحه بقطعة قماش قديمة، ثم يتابع: "اليوم ببيعه بـ250 شيقل".
يوضح العجلة أن سبب ارتفاع ثمن البابور ليس جشع التجار كما يظن البعض، بل ندرة وجوده وارتفاع الطلب عليه بشكل مفاجئ.
"الناس فقدت غاز الطهي، واللي عنده بابور كاز اليوم كأنه عنده مولد كهرباء في بيته. الغلاء صار طبيعي لأنه ما في بديل".
الظروف الحالية جعلت كل ما هو قديم يصبح حاجة ضرورية: "كأن الحرب رجعتنا خمسين سنة لورا".
ويشير إلى أن سعر كيلو غاز الطهي ارتفع بشكل جنوني منذ إغلاق معبر كرم أبو سالم بداية مارس، قائلاً: "كان الكيلو قبل الإغلاق بـ40 شيقل، اليوم بيوصل لـ220 شيقل في السوق السوداء، ومش دايمًا تلاقيه. يعني العيلة بدها توفّر الغاز للأكل ولا للإنارة؟ مستحيل يكفي".
لم يكن سامر يتوقع أن يتحول البابور الذي ظل مهملًا في مخزنه لسنوات إلى طلب يومي من الزبائن.
"الناس بتتصل فيّ تسأل: عندك بابور؟ حتى ناس من خان يونس بعثوا أولادهم لعندي بالسوق"، يقول مبتسمًا، ثم يضيف بنبرة جدية: "المشكلة إن العدد قليل، واللي عندي خلص، وهذا آخر واحد".
ورغم استغراب البعض من ارتفاع السعر، يؤكد العجلة أن الظروف الحالية جعلت كل ما هو قديم يصبح حاجة ضرورية: "كأن الحرب رجعتنا خمسين سنة لورا. الناس بتدور على بابور وصاج وفانوس، كأنهم يعيشون ببيت جدودهم، بس الفرق إن الزمن هذا أقسى بكتير".