غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"ماسورة مياه صرف صحي، بدلًا عن طرف صناعي".. عبارة صادمة تختصر مأساة طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره، لكنها يا للأسف ليست مشهدًا من خيال، بل حقيقة تحت حرب الإبادة على قطاع غزة.
لقطة واحدة التقطها مصوّر صحفي لراتب أبو اقليق وهو يتكئ على ماسورة مربوطة بالحبال كأنها ساقه المبتورة، وهو يحاول اللعب مع أقرانه، كانت كفيلة بإشعال موجة من الصدمة على مواقع التواصل. يسير بخطوات مرتجفة نحو خيمته، يسقط مرات عديدة، تنفلت "الماسورة" من مكانها، فيعود ليجلس يائسًا كما وصفه جدّه.
في خانيونس، جنوبي قطاع غزة، تحت القصف ذاته الذي شيّع أمّه مريم وأخاه الصغير في لحظة واحدة، أصيب راتب. كان قد ذهب معهما في زيارة لعائلة نازحة، قبل أن تمطرهم صواريخ الاحتلال.
الجد يروي أنه لم يكن يعلم أين انتهى المطاف بالطفل. تنقّل بين المستشفيات جريحًا، حتى وصل إلى مستشفى شهداء الأقصى. بطنه كان مثقلاً بالشظايا، ووضعه الصحي أقرب إلى الموت منه إلى الحياة. "لم يتوقع أحد أن ينجو"، يقول الجد، لكن راتب خرج من غرفة العمليات حيًّا، مثقلاً بالجراح، وقد فقد ساقه.
منذ ذلك اليوم، يعيش الطفل في خيمة نزوح وسط دير البلح، وسط قطاع غزة، مع جده الذي حمله من شمالي غزة إلى ما يُسمى "مناطق آمنة". يضحك الجد بسخرية مريرة: "يا ترى كم بلغ عدد الشهداء والجرحى في هذه المناطق الآمنة؟". في الخيمة المثقوبة، وبين محاولات التمسك بالحياة، كانت المأساة تكبر بصمت.
في أحد الأيام، انتبه الجد لراتب وهو يجرّب أن يربط ماسورة معدنية بساقه، يلفها بالحبال محاولًا خلق بديل عن الطرف الصناعي المفقود. سأله بدهشة: "ماذا تفعل يا بني؟"، فأجابه الطفل ببساطة جارحة: "أريد أن أركض مثل أصدقائي".
يصف الجد لحظة سماعه تلك الكلمات: "شعرت وكأن خنجرًا غُرس في صدري. رأيته يسقط مرة بعد مرة وهو يحاول التوازن على ماسورته الصدئة، حاولت منعه، لكن إصراره كان أقوى من يدي المرتعشة".
بالنسبة لراتب، لم تكن الماسورة قطعة حديد، بل كانت الأمل الضائع، والباب الصغير الذي يعيده إلى عالم الطفولة الذي سُرق منه. كان يظنها ستعيده إلى اللعب، إلى الركض، إلى الانتماء لطفولته بين أطفال يلهون حوله كأن الحرب لم تسرق منهم شيئًا.
لكن ما يحتاجه حقًا ليس ماسورة ولا حبالًا، بل طرف صناعي ورعاية عاجلة قد تعيد إليه جزءًا من طفولته. وحتى يتحقق ذلك، يظل عالقًا بين جدران خيمة بالية، وأحلام مقطوعة مثل ساقه. قصته تلخص مأساة آلاف الأطفال في غزة: أيتام تحت القصف، جرحى بلا دواء، أجساد صغيرة تُبتر في ظل نقص حاد في الأطراف الصناعية والرعاية الطبية، بسبب الحصار والعدوان المستمر.
الأرقام وحدها كفيلة بأن تصرخ: أكثر من 17 ألف طفل قُتلوا منذ اندلاع الحرب، ونحو 33 ألفًا آخرين أصيبوا، كثيرون منهم فقدوا أطرافهم أو يعيشون بإعاقات دائمة، وفقًا لليونيسف.
ومنذ استئناف القصف بعد آخر هدنة في يناير 2025م، يُقتل أو يُصاب يوميًا نحو 100 طفل في غزة. بين هذه الأرقام، يقف راتب بوجهه الطفولي وعكاز ماسورته، شاهدًا حيًّا على المقتلة التي تلتهم مستقبل جيل كامل.