غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
تحت سماء غزة الملبّدة بالموت، يفتح السؤال ذات الجرح كل مرة: "وين نروح؟". منذ نثرت "إسرائيل" ليلة أمس أوامر إخلاء المدينة "وبشكلٍ عاجل"، فتحت غزة صدرها الأعزل لموتٍ يقترب.
بين ركام البيوت، تتعثر خطوات النازحين بحقائب نصف ممتلئة، وتتسابق الدمعات لتحكي مأساة عامين من الموت والفقد والضياع. كل واحدٍ حمل بعضًا من حياةٍ ضاعت تحت نيران الحرب، ونسي الكل أرواحهم هناك.
"كيف سأعيش ما تبقى من عمري دون جذور؟". إنه يوقن أن الرحيل هذه المرة قد يكون بلا عودة.
عند مدخل طريق ترابي، يجلس السبعيني أبو أحمد أبو سيدو، يضع عصاه إلى جانبه، ويقول وهو يحدق بعيدًا: "حياة الخيمة البائسة تنتظرني من جديد. لقد تركت خلفي ما تبقى من بيتي، وذكرياتي، وصور أبنائي الشهداء. أخذت فقط مصحفي وعباءة"، متسائلًا بحرقة: "كيف سأعيش ما تبقى من عمري دون جذور؟". إنه يوقن أن الرحيل هذه المرة قد يكون بلا عودة.
في طريق آخر مقابل لبرج مشتهى الذي أضحى ركامًا بعد قصفه من قبل طائرات الاحتلال، تسير أماني عكر بخطوات متعثرة، تحمل على ظهرها حقيبة تكاد تسقطها أرضًا، بينما يتشبث بطرف عباءتها أطفالها الثلاثة، يمسكون بأيادي بعضهم، بينما يحملون أيضًا حقائب نزوح صغيرة، قالت إن فيها بعض الخبز والماء.
"كل ما أرجوه ألا يمس أطفالي سوء، أنا أسير ميتة، لكنني أحاول أن أحيا من أجلهم فقط".
أماني التي فقدت زوجها في بداية حرب الإبادة، دُمرت خيمتها بعد قصف منزل مجاور في منطقة الصحابة قبل أيام، استطاعت انتشال القليل من الملابس المهترئة لأطفالها، فلا خيار أمامها سوى ذلك، وأخذت تسير إلى حيث لا وجهة.
تقول: "نمنا ليلة في خيمة أقاربنا الذين قرروا النزوح بعد منشورات الإخلاء صباح اليوم، فككوا خيمتهم وانطلقت أنا بلا أي مقومات".
تسير الأم ومعها أطفالها بوجوه شاحبة، تؤكد أنها تمشي وليس لديها مكان يؤويها، لكنها تتجه نحو الجنوب أملًا بأن يصادفها أحد ويساعدها، وتضيف: "كل ما أرجوه ألا يمس أطفالي سوء، أنا أسير ميتة، لكنني أحاول أن أحيا من أجلهم فقط".
يشكو أطفالها التعب، تحاول الاستراحة ما بين فترة وأخرى بين الركام، لكنها انفجرت في البكاء حين تحدث محمد وهو أصغر أطفالها 5 سنوات قائلًا: "يا ليتنا متنا مع أبي، كنا الآن استرحنا من كل هذا التعب".
حاولت أماني أن تخفف عن أطفالها بالقول إنهم سيذهبون إلى مكان آمن بعد كل هذا التعب، لكنها تعلم أن هذا الأمر انتهى منذ أن بدأ الاحتلال عدوانه على القطاع، أجابته بصوت مرتجف: "سوف ينتهي كل هذا العذاب، لم يبق إلا القليل يا محمد. أنت بطل وتستطيع التحمل مثل إخوتك".
ووسط مشاهد الرحيل المُرة، هناك من قرر أن يبقى. رجل في الخمسين يُدعى جهاد، رفض مغادرة بيته المهدد بالانهيار رغم القصف الليلي، يقول: "إن متُّ هنا، أموت واقفًا بين جدراني، لا بين خيام النزوح." بينما تصرّ امرأة مسنّة على التمسك بمفتاح بيتها قائلة: "نزحت مرة وفقدت كل شيء، لن أكررها. إن أرادوا حياتي فليأخذوها هنا، لكن بيتي لن أتركه ثانية".
بين من يرحل ومن يبقى، تعلق غزة في السؤال ذاته: "وين نروح؟" فلا مكان يقي من الموت، ولا بيت آمن تحت سماء تنهمر منها القذائف بلا توقف. لقد صار النزوح قدرًا يطارد الناس هنا، والمكوث تحديًا يوازيه في قسوة الفقد.