غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
قُتل يوسف، وهو الذي اشتُهِر بحادثة ميلاده. ظلموه في ميلاده، وظلموه في استشهاده، ويا وجع فاطمة التي باغتها شريط ألم مأساوي، كأمٍ اعتُقلت في سجون الاحتلال فاكتشفت أنها حامل!
تسعة أشهرٍ عاشتها في أصعب ظروف يمكن أن تمرّ بها امرأة.. سجّان لا يتقن من الحياة سوى الجريمة، تنكيلٌ وإهانة وحرمان طوال فترة الحمل، حتى أنجبت "يوسف"، الذي وسمه القدر بأنه "أصغر أسير محرر في العالم".
عن يوسف الزق قصّتنا، ابن الأسيرة المحررة فاطمة الزق، من حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، التي ودّعته بدموع جفّت من فرط البكاء، وهي تتحسس جثمانه للمرة الأخيرة في مستشفى الشفاء بمدينة غزة. كانت تتمتم كأنها تكتب وصيتها الأخيرة، تحدّق فيه كما فعلت في أولى لحظات ولادته داخل الزنزانة، فهذا حبيبها ورفيقها الذي أمضى أول سنتين من عمره خلف قضبان الاحتلال الإسرائيلي، لم يعرف سريرًا دافئًا ولا بابًا مفتوحًا.
يوم الثاني عشر من يوليو/تموز الجاري، استشهد يوسف في غارة إسرائيلية استهدفت شقة سكنية تؤوي نازحين في شارع الثورة غربي مدينة غزة، هو وابن شقيقته الطفل تميم أبو العطا.
يوم الثاني عشر من يوليو/تموز الجاري، أُعلن استشهاده في غارة إسرائيلية استهدفت شقة سكنية تؤوي نازحين في شارع الثورة غربي مدينة غزة، هو وابن شقيقته الطفل تميم أبو العطا.
نجا يوسف من جدران السجن، ولم ينجُ من سقفٍ سقط فوقه. انتُشل من تحت الركام جسدًا صغيرًا يحمل سيرة طويلة لم يعشها سوى أبناء المآسي، أولئك الذين يولدون تحت القيد ويموتون تحت الحصار.
عام 2007م، اعتُقلت والدته فاطمة أثناء مغادرتها القطاع لتلقي العلاج، ولم تكن تعلم أنها حامل، واكتشفت ذلك لاحقًا، داخل جدران الزنزانة وتحت قيد السجن، بعيدًا عن أي رعاية، أو حتى نافذة تطلّ منها على الشمس. جاءت به إلى الحياة في مكان لا يشبه الحياة، فكان ميلاده شهادة على ما لم يُكتب في قوانين البشر.
"كنت كلما نظرت إليه شعرت أنني خرجت من السجن نصف حرّة، لأن يوسف لا يزال يحمل آثار الزنزانة داخله".
تقول فاطمة: "كنت كلما نظرت إليه شعرت أنني خرجت من السجن نصف حرّة، لأن يوسف لا يزال يحمل آثار الزنزانة داخله". كان صمته امتدادًا لجدران تلك الزنزانة، وكان ضحكه هشًا كأنه يخشى أن يُسمع. لم يُسمح له بحضنٍ عائلي، ولم يعرف وسع السماء، ولا تنفس هواءً نقيًا، عاش ليالٍ قاسية البرودة، ثم خرج، لا كطفل نجا، بل كشاهد صغير على السجن.
في أكتوبر 2009م، تحرر مع والدته ضمن صفقة تبادل، لتبدأ فاطمة رحلة جديدة معه خارج السجن، لكن داخل حصار أكبر. غادرا جدران الزنزانة إلى أزقة قطاع غزة المحاصر، حيث لم يكن السجن الوحيد الذي ينتظره، بل الحروب، والتصعيدات، والخوف الدائم. كل حرب كانت تختطف من عمره جزءًا، وكل قصف كان يزرع في ذاكرته صورة أخرى للموت.
لم تدم حريته طويلًا. رحلة يوسف كانت قصيرة، لكنها مكتظة بالألم، 17 عامًا في غزة المنكوبة، حملت أكثر مما تحتمله طفولة.
لم تدم حريته طويلًا. رحلة يوسف كانت قصيرة، لكنها مكتظة بالألم، 17 عامًا في غزة المنكوبة، حملت أكثر مما تحتمله طفولة. إلى هنا، قرر الاحتلال أن ينهي القصة. يوسف، ابن الحرية "الناقصة"، ابن المعاناة والمأساة، ابن الزنزانة الأولى والسماء المغلقة، استشهد في المكان ذاته الذي حوّله الاحتلال إلى أكبر محرقة لأطفال فلسطين.
غادر يوسف تاركًا والدته تُسجن مجددًا، ولكن هذه المرة في غياب لا يُكسر، في وجع لا يندمل، في حضنٍ فارغ لا يعوّضه شيء. فاطمة التي حملته تسعة أشهر خلف القضبان، باتت اليوم تحمل صورته في كفها، تصمت وتبكي وتنتظر معجزة لا تأتي. سُلبت حريتها مرتين، وظلت رهينة احتلال لا يعرف سوى اقتراف الموت.. بلا تردد، بلا رحمة، وبلا حتى اعتراف بالحقيقة: أن الطفل الذي وُلد في قيد.. مات في قيد أكبر.