غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في أحد أيام الحرب الثقيلة على قطاع غزة، كانت رجاء حمدونة، الأم الفلسطينية، تحاول أن تمنح أولادها لحظة سلام وسط الجحيم. كانت سيارة العائلة تسير ببطء، تحمل في داخلها رجاء وزوجها وأطفالهما الثلاثة، وداخلها أيضاً بقايا من أمل خافت أن تنتهي الحرب، أو على الأقل أن تمنحهم فرصة للهروب من نيرانها. لم تكن تعلم أن اللحظة التالية ستحفر في ذاكرتها إلى الأبد، وستسلبها أغلى ما تملك.
فجأة، دوى صوت انفجار ضخم، وتوقفت الأرض عن الحركة للحظات، ثم ارتجّت من جديد تحت زئير دبابة إسرائيلية تقدمت بلا رحمة، بلا تحذير، بلا تمييز. لم تمنحهم الوقت للهروب، ولم تنتظر أن يغادر الأطفال السيارة. تقدّمت بجسدها الحديدي الثقيل وداست السيارة بمن فيها، كأنها تسحق شيئاً لا قيمة له. تحطّمت النوافذ، وتطاير الحديد، وامتلأت العتمة بالصراخ، ثم بالصمت.
رجاء، وسط الركام، لم تكن ميتة، رغم أنها تمنت الموت في تلك اللحظة. كانت تحت الحديد المنبعج، تشعر بالألم يمزق جسدها، والدماء تغمر وجهها. حاولت أن تحرّك يديها، أن تبحث عن زوجها، عن صوتٍ يطمئنها أن أحد أطفالها ما زال حياً. لكن لا صوت. لا نبض. لا أحد. فقط هي، ودموع لا تقوى على السقوط من عينيها المغلقتين من الغبار والدم.
سُحبت رجاء من بين الركام وكأنها تعود من باطن الأرض، جسدها مكسور، وملابسها ممزقة، والدماء تغطي كل شيء. لم تكن تصرخ، لم تكن تبكي، فقط نظراتها تتحدث.
مرت دقائق، ربما ساعات، لا أحد يعلم، إلى أن شعرت بشيء يتحرك بداخلها، شيء أشبه برغبة الحياة، أو ربما نداء من روحها المنهكة ألّا تستسلم. فتحت عينيها بصعوبة، ومدّت يدها المرتجفة من تحت الأنقاض، تبحث عن ضوء، عن هواء، عن خلاص. لحسن الحظ، لمحها أحد الشبان الذين هرعوا إلى المكان بعد انسحاب الدبابة، فصرخ مناديًا آخرين: "في حدا عايش".
سُحبت رجاء من بين الركام وكأنها تعود من باطن الأرض، جسدها مكسور، وملابسها ممزقة، والدماء تغطي كل شيء. لم تكن تصرخ، لم تكن تبكي، فقط نظراتها تتحدث. نظرات أمٍ فقدت زوجها وطفليها أمام عينيها، دون أن تتمكن حتى من الإمساك بأيديهم في اللحظة الأخيرة. نُقلت إلى المستشفى الميداني، وهناك فقط أدركت أنها نجت من الموت، لكن قلبها لم ينجُ.
في حديثها المقتضب بعد أن استعادت بعض وعيها، كانت تهمس بكلمات متقطعة، تكرر أسماء أطفالها، تسأل إن كان أحدهم على قيد الحياة، ترفض أن تصدّق أن تلك اللحظة التي انقضت خلال ثوانٍ، كانت كافية لتمزق عالمها بالكامل. كانت تقول: "كنت معهم.. كانوا يضحكون.. كنا نهرب من الموت.. لكن الموت لحق بنا".
نجت مع رجاء ابنتها "سناء" فقط، أما أخويها فلا. نجت بجراحٍ قد لا تندمل العمر كله، إذ تعرضت لطلق ناري متفجر في قدمها اليمنى وكسور، وتعاني من خلع في "الحوض"، وتناشد لعلاجها بصوتٍ يتعالى على وجعه.
لا تجد في وجه رجاء ملامح الغضب، بل ترى ملامح من وجع، أعمق من كل الكلمات، ترى نظرة أم لم يعد لها ما تخسره سوى أنفاسها. لكن تلك الأنفاس، رغم ألمها، ما زالت تحمل شيئاً من الإصرار، شيئاً من الشجاعة التي لا تُفهم إلا حين تراها في وجوه النساء الفلسطينيات اللواتي يعانقن الموت يوميًا، ويخرجن من بين أنيابه حاملات جروحًا لا تندمل.
قصة رجاء ليست مجرد حكاية عن حرب عابرة أو حادث فردي، إنها صورة مصغرة عن الألم الفلسطيني المتكرر، عن العائلات التي تموت دفعة واحدة، عن الأمهات اللواتي يُقتَل أولادهن وهن على قيد الحياة، عن النساء اللواتي يُدفَنَّ تحت الركام ثم يُبعَثن منه مجدداً ليُكملن الطريق وحدهن، محملات بذاكرة ثقيلة لا يمحوها الزمن.
رجاء حمدونة، الأم الناجية من تحت جنزير الدبابة، لم تكن ضحية فقط، بل شاهدة. شاهدة على ما لا ينبغي أن يمرّ مرور الكرام، على بشاعة فقدان الأحبة بهذه الطريقة، وعلى قوة الإنسان حين يجد نفسه في حضن الموت، ولا يزال يختار الحياة. في عينيها، رغم الدم والجراح، تلمع شرارة باهتة تقول للعالم: "أنا لم أمت. وما زلت أروي".