غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في قطاع غزة، وجوه الفقد كثيرة؛ زار أحدها عائلة "الزعانين" التي صُدمت برواج صورة ابنها "محمد يوسف الزعانين"، محمولًا على ألواح خشبية، وجسده ممرغ بالطحين والدم. هكذا، حينما قرر الاحتلال أن الحصول على كيس من الطحين تحت الإبادة يساوي حياة إنسان.
محمد، شاب في العشرين من عمره، ابن بلدة بيت حانون التي تتعرض للتدمير منذ اليوم الأول للحرب على القطاع. نزح مع أمه وسبع شقيقات أكثر من عشر مرات، من مكان إلى آخر تحت القصف المستمر. انطلق صبيحة الثامن عشر من يونيو/حزيران إلى شمالي مدينة غزة لانتظار المساعدات، لعلّه يحصّل الطحين. لم يكن يحمل شيئًا سوى كيسٍ صغيرٍ فارغ، إلا من أمل الحصول على القليل من المساعدات. وصل إلى نقطة وصول الشاحنات في منطقة "الخزندار" شمال غربي غزة، وسط مئات الجائعين، المتعبين، الذين يتزاحمون على فرصة للبقاء. لكنه لم يعد. أو بالأحرى، طريقة عودته كانت مدوية.
قُتل الشاب برصاصة قناص إسرائيلي، أردته قتيلًا في لحظتها. سقط، وسقط الكيس إلى جانبه، بينما تبعثر الطحين الذي لم يستطع محمد تعبئة أقل القليل منه. اختلط بدمه. صرخ الناس وحاولوا انتشاله رغم كثافة النار. لم يجدوا أمامهم سوى ألواح خشبية كانت على ظهر الشاحنة تحمل الطحين، فحملوه فوقها ونقلوه كأنهم ينقلون نعشًا، سيرًا عبر طرق وعرة تكدّس فيها ركام المنازل المدمرة.
لم يخطر ببال أمه أن يعود إليها محمد شهيدًا. كان عزاؤها أنه مدني جائع، صغير السن، وكيسه فارغ كمعدته، ينتظر فقط الحصول على الطعام، رغم كل مجازر المساعدات التي تحدث يوميًا. لكن شيئًا بداخلها كان يعطي مبررًا لقلبها بأن صغيرها سيظل بخير.
لم تكن عائلته تعرف أن خروجه ذاك سيكون الأخير، وإلا كانت منعته منعًا تامًا –تقول إحدى قريباته– مضيفة: "لم تكن أمه تدري أن ابنها الوحيد، سندها وظهرها المتين الذي هوّن عليها كل مآسي الحرب، سيكون شهيدًا. عاد بثيابه المخضبة بالدم فقط".
تجلس قريبة محمد الزعانين في بيت العزاء الصامت، تحاول أن تجد الكلمات لتصف غيابه، ثم تتحدث بصوت خافت: "محمد ما كان مجرد ابن، أمه كانت تعتمد عليه في كل شيء. هو اللي يطلع يجيب الأكل، هو اللي يشتري الدواء، هو اللي يشوف شؤون أخواته السبع. حتى البنات كانوا ما يطلبوا شي إلا منه. كان حنون عليهم، وكبير بعقله رغم عمره الصغير".
تتابع: "بيت حانون كلها كانت تعرفه، لم يتأخر عن مساعدة أحد يومًا (..) كانت أمه تقول: يا محمد، لا تتأخر، انتبه لنفسك، لو حسّيت بالخطر خلّينا نموت جعانين بس ما نخسرك. راح، وخلّى الوجع وراه.. سبع بنات، وأم مكسورة الظهر" -حسب وصفها.
وتتساءل: "يُقال إن الجوع كافر، لكن ماذا يقال عن الفقد؟ ماذا يمكن أن تقول أم فقدت ابنها الوحيد في إحدى مجازر المساعدات المستمرة؟".
وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أعلنت استشهاد أكثر من 400 فلسطيني وجرح الآلاف، خلال محاولتهم الحصول على المساعدات منذ أواخر مايو/أيار المنصرم.
في غزة، تحول الطحين إلى شيء يقاتل الناس من أجله، ويدفعون أرواحهم ثمنًا للحصول عليه. ففي كل مرة تُفتح فيها نقطة توزيع مساعدات، أو يُقال إن مساعدات ستمر من منطقة محددة، يتجمّع الجائعون صغارًا وكبارًا، نساءً ورجالاً، أطفالًا ومسنين، وفي كل مرة، تكون هناك مجزرة.
ومن الجدير ذكره أن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أعلنت استشهاد أكثر من 400 فلسطيني وجرح الآلاف، خلال محاولتهم الحصول على المساعدات منذ أواخر مايو/أيار المنصرم.