شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الاربعاء 22 اكتوبر 2025م04:11 بتوقيت القدس

مدّدت "الصحة" صلاحية بعضها وحذرت من أخرى..

أدوية "منتهية" في "كيس غزة".. ومرضى يردّدون: "كلّه موت"!

19 يونيو 2025 - 20:17

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

أمام خيمته، يجلس مازن أبو جلالة بوجهه الشاحب وجسده الهزيل. عيناه لا تفارقان كيس دوائه الفارغ إلا من بعض حقن الأنسولين التي وفّرها "للحظة انهيارٍ" على حدّ تعبيره. يعاني الرجل (45 عامًا) من مرض السكر منذ سنوات، لكن حرب الإبادة جعلت من مرضه المزمن معاناةً مضاعفة، بل معركة بقاءٍ يومية يترنح فيها بين الجوع والبحث عن علاج.

في قطاع غزة، صار الموت هو القاعدة. يموت الناس من القصف، ومن الجوع، ومن المياه الملوّثة. يموت الجرحى بالصواريخ في المستشفيات التي تقصفها "إسرائيل"، والمرضى من ضعف الإمكانات الطبية، والأحياء منهم يموتون في كل لحظةٍ يبحثون فيها عن "علاج".. فإن وجدوه اصطدموا بمطبٍ جديد: "دواء منتهي الصلاحية".

يعقب مازن بابتسامة يائس: "لا أراها مشكلة. إن كان مصيرنا الموت بكل الأحول، ربّما لا ضرر بدواء منتهي الصلاحية!".

يحتاج الرجل إلى ثلاث جرعات يومية من الأنسولين، "لكن هذا بعيد المنال" يستدرك، ويخبرنا: "في الأسابيع الماضية، لجأتُ إلى إحدى عيادات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)؛ للحصول على العلاج، لكنني فوجئت بأن ما توفره العيادة منتهي الصلاحية".

كان مازن مجبرًا على أخذها، بناءً على قناعته بأن دواءً منتهي الصلاحية أفضل من عدمه، "بس جسمي ما عاد يتحمل" يعلق بحسرةٍ وانكسار.

منذ أن بدأ مازن باستخدامها الحقن التي استلمها، أصابته مضاعفات عديدة، منها الغثيان المستمر، والتورم في الأطراف، والصداع المستمر، والخمول التام، الذي صار يمنعه حتى من الوقوف "إلا بمساعدة".

يتساءل: "لا أعرف ماذا علي أن أفعل كمريض سكر؟ هل أبحث عن الطعام لأسد جوعي أم على إبرة أنسولين كي أبقى على قيد الحياة؟".

قبل نحو شهرين، تعثرت قدم مازن بصخرة بينما كان يحاول الهرب من قصفٍ قرب خيمته، جُرحت، لكن الجرح لم يلتئم حتى هذه اللحظة، وقد بدأت تظهر عليه علامات الالتهاب، قائلًا: "ما بعرف إذا رح تتسمم رجلي ولا لا.. بس أنا خايف كتير."

الأمر الطبيعي، أن حقن الأنسولين تحتاج لحفظها في الثلاجات، لكن في غزة وتحت الإبادة، لا كهرباء منذ عامٍ وثمانية أشهر. تغيب الرعاية الصحية الكافية، ولا يملك مازن هنا -على سبيل المثال لا الحصر- سوى أن يحتفظ بما تبقى منها في كيس تحت فراشه، برغم عدم استفادته من مفعولها وتأثيرها السلبي! "لكن وجودها بحد ذاته يلزم في أي لحظة انهيار كبيرة" يضيف.

يوجّه الرجل نداءه للعالم "في حال كان لا يزال يسمع صوت نحيب غزة"، ويقول: "أكثر ما أرجوه في الحياة اليوم إبرة أنسولين سليمة، ليست منتهية الصلاحية، ليست ملوثة، لأجل أن أتنفّس قليلًا، لتساعدني على الوقوف لفترة أطول".

وبالنظر إلى قصته، فإنها تتشابه مع قصص آلاف المرضى الذين يعانون تحت حمم القصف المستمرة في ظل ضعف المنظومة الصحية، منهم مرضى الضغط، والقلب، والربو، وكل الأمراض المزمنة. عاجزون هم عن الحصول على أدويتهم الأساسية، فقد حرمتهم الحرب من العلاج، ومن القدرة على التحرك أو حتى تلقي الدعم الغذائي الذي يساعدهم في السيطرة على حالتهم الصحية.

في إبريل المنصرم، أصدرت منظمة أطباء بلا حدود، بيانًا دقت فيه ناقوس الخطر إزاء نقص الأدوية الضرورية واقترابها من النفاد في قطاع غزة، بسبب الحصار الذي تفرضه إسرائيل.

وأكدت المنظمة أن الحصار الإسرائيلي يجعل الفلسطينيين عرضة لـ"خطر فقدان الرعاية الصحية الحيوية"، واعتبرت أن استمرار القصف الإسرائيلي لقطاع غزة يحرم الفلسطينيين من الاحتياجات الأساسية من غذاء وماء وأدوية، مما يؤدي إلى ارتفاع عدد "المضاعفات الصحية والوفيات".

كما سجّلت أن الفرق الطبية تعاني من نفاد الإمدادات الجراحية مثل أدوية التخدير والمضادات الحيوية للأطفال وأدوية الحالات المزمنة مثل الصرع وارتفاع ضغط الدم والسكري، وأفادت بأن الفرق الطبية "تضمد في بعض عيادات الرعاية الصحية الأولية جروح المصابين بلا أي مسكنات للألم".

منال أبو عمرو (28 عامًا (حالةٌ أخرى. تعيشُ في مخيمٍ للنازحين غربي مدينة خانيونس جنوبي القطاع، وهي حاملٌ في شهرها السابع. لا تعاني فقط من الألم الجسدي والنفسي تحت الإبادة، بل من خوفٍ يلازمها في كل لحظةٍ من فقدان جنينها، بعد أن صارت تعتمد على حقن "كليكسان" منتهية الصلاحية، وهي تعلم أن مصيرها ومصير جنينها معلقٌ بجرعة قد لا تنقذه ولا تنجو بقلبها.

تعاني منال من اضطراب تخثّر الدم، وحملها هذا هو الثالث بعد ثلاث حالات إجهاض سابقة. يخبرُها الطبيب بأن المنقذ لحالتها هو "كليكسان" ويجب أن تأخذه يوميًا بانتظام؛ ليمنع تشكل جلطات قد تؤدي إلى وفاتها أو وفاة الجنين.  

ومنذ استئناف الحرب على قطاع غزة في آذار/ مارس 2025م، بعد شهرين من الهدنة، أُغلقت العيادات وتوقفت الإمدادات الطبية بشكل كامل. وبعد بحثٍ مضنٍ، حصلت على عدة حقن من مركز صحي شبه مهجور -حسب وصفها- في منطقة شرقي خانيونس، ليُكتشف لاحقًا أنها منتهية الصلاحية منذ شهرين.

تقول: "لم أكن أعرف. لم يكن لدي وقت لأسأل عن التاريخ فالقصف كان مكثفًا. كما لم يكن لدي خيارات أخرى، فالبحث عن الدواء يحتاج جهودًا كبيرة".

"هل شعرتِ بأي أعراض جانبية؟" تجيب منال: "بعد أيام من الاستخدام، بدأت تظهر عليَّ أعراض النزيف المتقطع، والصداع الحاد، بالإضافة إلى كدمات زرقاء في الجسد لا سبب واضح لها!"، لكنها (والحديث لها) حينما استشارت إحدى الممرضات، أخبرتها أن وزارة الصحة مدّدت صلاحية بعض الأدوية وليس جميعها، وأن لا خطر على صحتها منها طالما أنها استلَمتها من مركز طبي، ولم تشترها من بسطة أدوية في الشارع".

تخشى منال أن تلد في خيمة، بلا دواء ولا رعاية، وأن تكون النهاية مؤلمة لها أو لجنينها. تزيد وهي تبكي: "كليكسان هذا المفروض يحميني.. بس لما يكون منتهي، ممكن يقتلني، أنا مرعوبة لكن لا خيارات أمامي."

في حالة ثالثة، يرقد عماد حسين وهو في الستينيات من عمره في المستشفى، ينتظر نصيبه في جلسة غسيل كلى لم تأت منذ أيام؛ بسبب الظروف الاستثنائية التي تمر بها المنظومة الصحية في القطاع، عوضًا عن حالات النزوح المتكررة وإفراغ المستشفيات التي تُهدَّد فجأة وتُجبَر على الإخلاء في ظل القصف المباشر.

يقول ابنه: "أبي يحتاج يوميًا إلى أدوية خافضة للضغط ومنظمة للأملاح، ومثبتات لحالته الكلوية، لكنه منذ أشهر يحصل على دوائه بصورة متقطعة تبعًا للظروف ومكان تواجده، ومنها ما اكتشف لاحقًا أنه منتهي الصلاحية". 

ويضيف: "أُجبِر على تناولها، فلا خيارات أخرى متاحة. ضغطه يصل أحيانًا إلى 110/190". لا ينكر الشاب أنه شعر باستقرار في حالته بدايةً، لكن بعد مدة أخذت تظهر عليه أعراض دوخة شديدة وغثيان متواصل وانتفاخ بوجهه وأطرافه، وتبين لاحقًا أن مستوى البوتاسيوم في دمه ارتفع بشكل خطير، وبدأ قلبه يُظهر اضطرابات في النبض.

يعلّق الأب المريض: "لا أعرف إن كانت الأدوية ساعدتني أم قربتني من الموت أكثر، لكن في غزة وتحت الإبادة الجميع مستهدف، جميعنا أموات: بالصواريخ، وبالحرمان من العلاج والدواء.. الفرق بيننا فقط هو الوقت، إما موت سريع بالصواريخ أو بطيء بمنع العلاج من الدخول للقطاع".

في بداية حزيران/يونيو أعلنت مصادر طبية، أن (41%) من مرضى الفشل الكلوي توفوا خلال الحرب؛ جراء حرمانهم من الوصول إلى مراكز الغسيل ومنع دخول الدواء، وتدمير المراكز والأقسام المخصصة لهم.

وعن استخدام الأدوية منتهية الصلاحية بالعموم، يلفت المختص الطبي عمرو السويركي، إلى أن هناك أصنافًا من التي أعلنت وزارة الصحة عن تمديد صلاحيتها بعد انتهائها، قد تكون صالحة للاستخدام لعدة أشهر أخرى، في حال لم تتغير صفاتها الفيزيائية، "لكن في حال تغيرت هذه الصفات، فإنها ربما تتحول إلى مواد خطيرة تؤثر على حياة المريض".

ومن هذه الصفات، عدم تغير تماسك حبة الدواء، وعدم تغير لونها أو انتفاخ شريطها، وعدم اختلاف رائحتها. يشير السويركي إلى أن المضادات الحيوية لا يمكن استخدامها بعد انتهاء مدة صلاحيتها؛ لأنها تتعرض لبعض التغيرات الكيميائية.

بدوره، أكد القائم بأعمال مدير عام الصيدلة في وزارة الصحة بغزة، زكري أبو قمر، أن استخدام أدوية منتهية الصلاحية يحدث فقط بعد فحصها من قبل لجنة فنية مختصة، كـ"حلٍ اضطراري" في ظل نقص الدواء الذي يعانيه القطاع؛ بسبب استمرار حرب الإبادة واشتداد الحصار الإسرائيلي.

ونبه في أبو قمر في العديد من التصريحات إلى أن هناك أصناف مثل الهرمونات والأدوية عالية السمّية، التي لا يمكن تمديد صلاحيتها، مشددًا على أن "الصحة" لا تصرف الدواء الذي انتهت صلاحيته، إذا كان هناك بديل متوفر له.

وأوضح أن نسبة العجز في الأدوية بلغت (37%) في حين ارتفعت نسبة النقص في المستلزمات الطبية إلى (59%)، مشيرًا إلى أن 229 صنفًا من أصل 622 مدرجًا ضمن قائمة الأدوية الأساسية في مستشفيات ومراكز الوزارة نفد تمامًا، كما تم تسجيل نفاد 597 صنفًا من أصل 1006 من المستلزمات الطبية المتداولة.

وأشار أبو قمر إلى أن أكثر الخدمات الصحية تضررًا من هذا النقص الحاد تشمل: الرعاية الأولية، وجراحة العظام، وعمليات القسطرة، وجراحات القلب المفتوح، وخدمات غسيل الكلى، محذرًا من أن استمرار الوضع الراهن يشكل خطرًا حقيقيًا على استمرارية تقديم الرعاية الصحية، ويهدد حياة المرضى والجرحى بشكل مباشر.

وناشد سكان القطاع، بعدم استخدام أي دواء منتهي الصلاحية بناءً على اجتهاد شخصي، منبهًا إلى أن صرف هذه الأدوية يجب أن يتم فقط بموافقة فنية مسبقة من وزارة الصحة، وذلك لتجنب ما قد يترتب على استخدامها من مخاطر صحية جسيمة.

من جهته، شدد وائل بعلوشة، مدير مكتب الائتلاف من أجل النزاهة والشفافية "أمان" في غزة، على ضرورة تكثيف الجهود والضغط الدولي لوقف الحرب المتواصلة على قطاع غزة، مشيراً إلى أهمية تحييد الملف الصحي بشكل كامل عن مجريات الحرب وعدم إخضاعه لأي شكل من أشكال الابتزاز السياسي أو العسكري.

وأكد على المطالبة العاجلة بإدخال الأدوية والمستلزمات الطبية بشكل فوري ودون أي قيود أو شروط، لضمان استمرار تقديم الرعاية الصحية للمرضى والمصابين في ظل الانهيار المتسارع للنظام الصحي.

كاريكاتـــــير