شبكة نوى، فلسطينيات: أحلام حماد
غزة- نوى/ فلسطينيات
صرخت "كرمل" فانفرجت أسارير جدَّتها ابتسام، وهي تمسكها من ساقيها ورأسها إلى الأسفل، وتضرب بكفها على قدميها الصغيرتين، لتطلق صرخة الحياة.
لن تنسى الجدة الخمسينيّة تلك اللحظة التي وجدت فيها نفسها مضطرةً لأن تكون "القابلة" لابنتها سهام (24 عامًا)، وقد دهَمَتْها آلام المخاض في ساعة متقدمة من الليل، فغادرَت خيمتها تسابق الريح رغم ثقل الحمل، ولجأت إلى والدتها في منزل أسرتها بمخيم "الشابورة" للاجئين بمدينة رفح جنوبي قطاع غزة.
كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل عندما طرقت سهام باب بيت والدتها. طلقات الميلاد متلاحقة، وشعورها بالألم يزداد على نحوٍ متسارع، وهنا أدركت الأم أنها لحظة الميلاد، وأن ابنتها لن تقوى على الصبر حتى وصول سيارة الإسعاف لتُقلّها إلى المستشفى.
هرولت الأم التي جربت الحمل والميلاد 11 مرة، نحو جارٍ لهم يمتلك سيارة خاصة، لكنه رفض طلبها بنقلهم إلى مستشفى الهلال الإماراتي في حي تل السلطان غربي المدينة، خشية مخاطر الطريق في ظل التحليق المكثف للطيران الحربي الإسرائيلي.
في الوقت نفسه كان "أبو عمار" والد سهام برفقة زوجها في مستشفى الكويت التخصصي، يطلبان سيارة إسعاف تقلها إلى مستشفى الهلال المتخصص بالنساء والتوليد، لكنهما فوجئا بأن هذه السيارة المخصصة لنقل النساء الحوامل، تتابع مهمة نقل امرأةٍ حامل من مكان آخر.
مر الوقت ثقيلًا مؤلمًا على سهام ومن حولها، فاستلقَت أرضًا وقد أنهكَتها "طلقات الميلاد"، وحينها أدركت ابتسام أنها اللحظة التي لا ينبغي بعدها الانتظار. كان قرارها جريئًا للغاية حينما أخبرت ابنتها بأنها ستساعدها للولادة في البيت، وقد وجدت التشجيع والمساعدة من ابنتها الصغرى فاتن، التي كانت على وشك التخرج من تخصص التمريض لولا اندلاع الحرب الإسرائيلية المستمرة للشهر السادس على التوالي.
تعاوَنَ جميع من في المنزل لمساعدة سهام على الولادة، وكانت ابتسام "قائد العملية في الميدان"، فيما ابنتها فاتن على الهاتف مع أستاذةٍ لها في الجامعة، تشرحُ لها الحالة وتتلقى منها الإرشادات، وسهام لا تملك من أمرها شيئًا سوى إطلاق صرخاتٍ ممزوجةٍ بالدعاء والرجاء.
نجحت العملية، وقطعت ابتسام الحبل السري الذي يربط الجنين بعالمها الصغير في الرحم، حيث راحةٌ امتدت لتسعة أشهر، وأطلقت المولودة "كرمل" صرخةً ستربطها بحياةٍ يبدو أنها لن تخلو من التعب والمشقة حتى آخر نفس.
و"كرمل"، هي البنت الثانية لسهام بعد ابنتها البكر "يافا"، والاثنتين تحملان أسماء بلدتين في فلسطين التاريخية قبل نكبة العام 1948م، وتعيشان حاليًا في خيمةٍ صغيرة داخل مخيم الشابورة بمدينة رفح، اضطرت الأسرة للنزوح إليها بعد التوغل البري الإسرائيلي في مدينة خان يونس جنوبًا.
وتتساءل ابتسام وقد ارتسمت ابتسامةً على محياها: "كيف لنا أن ننسى بلادنا ونحن نطلق أسماء مدننا وقرانا على أطفالنا؟ نحن شعبٌ يموت كبارنا ولا ينسى صغارنا".
بعد وقتٍ من الميلاد وصلت سيارة الإسعاف، ونقلت سهام ترافقها شقيقتها فاتن والمولودة كرمل إلى المستشفى، وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية والنصف فجرًا، وباستغرابٍ تساءل الطبيب: "هل ولدت بالبيت؟".
عبّر الرجل عن إعجابه بشجاعة الأم وابنتها، واستكمل عملية الولادة من حيث التنظيف، وإعادة ضبط قطع الحبل السري، وأبقى على الأم ومولودتها تحت المتابعة حتى ظُهر ذلك اليوم.
ولأنها الولادة في زمن الحرب، لم تجد ابتسام طعامًا تُعدّه لابنتها تتقوى به على آلام الحمل والولادة سوى البيض والقليل من زيت الزيتون، وقد أعيا زوجها وابنها التعب بحثًا عن دجاجة من دون جدوى.
ودأبت منظماتٌ محلية ودولية على التحذير من المخاطر المحدقة والمحيطة بعشرات آلاف النساء الحوامل في قطاع غزة، جرّاء استمرار الحرب الإسرائيلية الضارية، وافتقادهن الرعاية الصحية اللائقة، والتغذية السليمة المناسبة.
وقال صندوق الأمم المتحدة للسكان: "إن مستشفيين فقط من أصل 12 مستشفى في القطاع، يعملان بشكل جزئي ويقدمان خدمات الأمومة، وما يصل إلى 180 امرأة ينجبن كل يوم ويعانين من الجوع والجفاف، ومن الصعب بشكل متزايد العثور على أماكن آمنة للنساء الحوامل والأمهات الجدد لكي ينجبن أطفالهن، ما يؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بالعدوى والأمراض المعدية، التي تتفاقم بسبب نقص المياه النظيفة".
وقبل بضعة أيام، قال ممثل الصندوق في فلسطين “دومينيك ألن" :”إن الوضع في غزة يفوق في وضعه الكارثة، والأمر أسوأ مما يستطيع وصفه ومما تظهره الصور”.
ويوضح المسؤول الأممي أنه غادر غزة بعد زيارتها لأيام مؤخرًا، وهو يشعر بالخوف على مليون امرأة وفتاة، 650 ألفًا منهن في عمر الإنجاب، خاصةً وأن 180 امرأة يلدن كل يوم.
وفي كلمات قليلة عبر من خلالها ألِن عن عمق الكارثة الإنسانية في القطاع، خاصة على النساء في الشمال، قال: "إن كل يوم في شمال غزة هو معركة من أجل البقاء"، متابعًا: "الأطباء ما عادوا يرون مواليد بحجم طبيعي، بل على العكس فإنهم يرون عددًا أكبر من وفيات الأطفال حديثي الولادة بسبب معاناة أمهاتهم الحوامل نتيجة سوء التغذية والخوف والنزوح المتكرر".
وأضاف: "حريٌ بأولئك الأمهات أن يحضن أطفالهن بين أذرعهن وليس في أكياس الجثث”، مشيرًا إلى الافتقار لوسائل التخدير التي تحتاج إليها الحوامل ممن يخضعن لولادة قيصرية.