شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الخميس 18 سبتمبر 2025م11:01 بتوقيت القدس

شهادات حيّة.. "نتساريم" مصيدة القتل والاعتقال

28 يناير 2024 - 08:11

شبكة نوى، فلسطينيات: أحلام حماد

غزة-نوى/فلسطينيات

طلب جنود الاحتلال الإسرائيلي من طفلٍ في الرابعة عشرة من عمره، الخروج من بين حشودٍ نازحةٍ من شمال قطاع غزة نحو جنوبه، والتقدم نحو دبابة متمركزة على "مفترق الشهداء"، ثم أمروه بخلع ملابسه كاملةً، وطالبوه بإبراز بطاقة هويته الشخصية!

النازح السبعيني شحدة أبو زريق كان شاهدًا على هذه الحادثة، التي تكررت مع أطفالٍ آخرين، كان مصير المئات منهم الاعتقال ونقلهم إلى جهات غير معلومة، فيما كان جنود الاحتلال يسمحون للبقية بالمرور واستكمال طريقهم نحو مدن وسط وجنوب قطاع غزة، قبل نحو شهرين ونصف، بعد ممارسة صنوفٍ من الإذلال والتفتيش العاري بحقهم، على مرأى جموع النازحين الذين لا يملكون من أمرهم شيئًا.

حتى يومنا هذا، ما زال نازحون من مدينة غزة وشمال القطاع، يشتكون من رحلة نزوح اضطرارية محفوفة بالكثير من المخاطر، خاضوها عبر شوارع يلفُّها الدمار أينما وقعت أبصارهم، وجثثٍ لشهداء متحللة وأخرى مقطعة لأشلاء، وصولًا إلى شارع صلاح الدين حيث تتمركز الدبابات والآليات الإسرائيلية، وتنصب القوات حاجزًا عسكريًا على مفترق الشهداء، الذي كان يطلق عليه اسم "مفترق نتساريم" قبل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع في العام 2005م.

من منزله في بلدة بيت حانون، أقصى شمال القطاع، نزح أبو زريق (71 عامًا) بأسرته، مع أبنائه وأسرهم، نحو مدرسةٍ تابعةٍ لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في محيط المستشفى الأندونيسي.

مكثت هذه الأسرة في مدرسة بيت لاهيا 43 يومًا، ورغم حدة الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت محيط المستشفى الإندونيسي وانتهت باقتحامه لاحقًا، لم تغادر المدرسة إلا بعد قصفٍ استهدفها مباشرة. يقول الرجل الذي كان قبل تقاعده ولنحو أربعة عقود مدير مدرسة لـ"نوى": "قررنا النزوح إلى مدينة رفح، ولم نجد في مدارس "أونروا" متسعًا لنا، ففتحنا بأنفسنا وبرفقة أسر أخرى مدرسة حكومية، وكنا أول النازحين فيها قبل أن تتوافد إليها عشرات الأسر الأخرى.

تخلّت أسرة أبو زريق عن سيارتها الخاصة الحديثة، التي لم يمض على شرائها أكثر من 3 شهور، وتركَتها في الشارع، واستقلّت عربات تجرّها الدواب (كارو) إلى أقرب نقطة مسموح بها قبل السير على الأقدام لنحو 5 كيلومترات، عبر حاجز نتساريم.

ويضيف: "إن النكبة التي يعيشها أهل غزة، بفعل تداعيات الحرب الإسرائيلية، لا تقل مأساوية عن نكبة عام 1948م، التي هجرت الآباء والأجداد، من حيث مجازر القتل المروعة، وعمليات الهجرة والنزوح الجماعية".

وتقدر منظمات دولية أن الحرب الإسرائيلية على غزة تسببت في نزوح 1.6 مليون نسمة، سواءً نزوحًا داخليًا في المدينة الواحدة، أو من شمالي القطاع إلى جنوبه، من بينهم أكثر من مليون نازح يقيمون في مراكز الإيواء داخل مدارس تابعة لـ"أونروا".

وفي غرفةٍ صغيرةٍ تتكدّس أسرة أبو زريق المكونة من 34 فردًا، لا تتوفر بها سوى 4 فرشات فقط وبضع أغطية. يقول أبو زريق إنهم يتناوبون على النوم، ويتشارك عدد من الأطفال في فرشة واحدة للنوم.

طريق النزوح التي خاضها أبو زريق وأسرته، بكل ما واجهوه من آلامٍ ومعاناة، كانت أقل ما واجهه نازحون غيرهم من إرهاب جنود الاحتلال ودباباته وآلياته، ومنهم من فقد حياته نفسها خلال ما يصفه نازحون بـ "رحلة الموت"، جراء استهدافهم المباشر بنيران الاحتلال.

ويعيش نازحون معاناة النزوح مضاعفةً، بعدما فقدوا في رحلة نزوحهم فردًا أو أكثر من أسرهم، ولا يعلمون عن مصيرهم شيئًا، حيث تعرضوا للاعتقال على حاجز "نتساريم"، ويجدون في الصحفيين ملاذًا للسؤال، ويصبون جام غضبهم على اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي واجهت انتقادات حادة خلال الحرب الحالية لعدم تعاطيها بإيجابية مع اتصالات واستنجاد المدنيين بها.

يقول أبو محمود، الذي اكتفى بذكر كنيته خشية انتقام الاحتلال من نجله (21 عاماً)، الذي جرى اعتقاله لدى مروره عبر حاجز "نتساريم"، في طريق نزوجه من شمالي القطاع إلى جنوبه: "انقضت أسابيع على الحادثة، وحتى اليوم لا أعلم شيئًا عن مصيره، ولا أتوقف عن سؤال كل من يقابله من صحفيين ونازحين، لعله يسمع خبرًا يثلج صدره ولكن من دون جدوى".

وقد أبدى غضباً شديدًا لدى سؤاله: "لماذا لا تتواصل مع الصليب الأحمر؟"، إذ أجاب بكلماتٍ لا تكتب هنا لقساوتها.

ولا تُفرّق قوات الاحتلال بين نازحٍ وآخر في الاعتقال والإذلال، وبحسب وزارة الصحة في غزة فقد اعتقَلت (26) من الكوادر الطبية، أبرزهم مدير مجمع الشفاء الطبي الدكتور محمد أبو سلمية، الذي كان يرافق جرحى ومرضى ونازحين من المستشفى نحو جنوب القطاع، وبتنسيق منظمات دولية.

ويقدر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان عدد من اعتقلهم قوات الاحتلال أثناء نزوحهم عبر حاجز نتساريم بزهاء 500 فلسطيني، ويقول رئيس المرصد رامي عبدو لـ "نوى": "إن الاحتلال حوّل هذا الحاجز إلى مصيدةٍ للاعتقال وممارسة التنكيل والتفتيش المهين، وأخطرها عمليات القتل الميداني خارج نطاق القانون".

ويسرد قصة مأساوية لزوجة اسمها رشا نزحت برفقة أطفالها مع زوجها بهاء، الذي اعتقله الاحتلال بعد التنكيل به وبالعائلة، فيقول: "مشت الزوجة برفقة أطفالها الصغار عدة كيلومترات تبكي زوجها، دون أن تعلم ماذا تفعل وإلى أين تذهب".

هذا هو حال مئات الأسر التي لا تعرف مصير أبنائها وتتخوف من تعرضهم للقتل كما حدث مع عدد من المعتقلين -والحديث لعبدو- وتزداد معاناة الأهالي بسبب عجزهم عن الحصول على أية معلومة عن مصير أولادهم وانقطاع أو سوء الاتصالات.

وبالنسبة لعبدو فإن اللجنة الدولية للصليب الأحمر لم تقم بالجهد المطلوب من أجل معرفة مصير المعتقلين من النازحين، ووثّق المرصد الأورومتوسطي حالات قتلت بها قوات الاحتلال مواطنين من النازحين، إثر رفضهم عمليات التنكيل، ومنها جريمة تعذيب واعتقال زوج وزوجته بسبب رفض الأول تعرض زوجته للتفتيش، فضلًا عن جمعه شهادات لنازحين عبروا الحاجز وتحدثوا عن مواقف صادمة وجرائم قتل واعتقال وإذلال متعمد، من جانب قوات الاحتلال، التي زعمت مرارًا أن شارع صلاح الدين عبر مفترق الشهداء هو مسار آمن لمرور النازحين.

ويردف عبدو: "جيش الاحتلال كان يجبر السكان على السير مشيًا على الأقدام لمسافةٍ تقدر بنحو 7 كيلومترات للنزوح إلى مدن جنوب القطاع، كما وحظر وصول أي مركبات على بعد حوالي 4 إلى 5 كيلومترات من نقطة عسكرية يقيمها على مشارف مدينة غزة، وأجبر النازحين على رفع أذرعهم طوال سيرهم وحمل رايات بيضاء"، متابعًا: "ولم تكتفِ قوات الاحتلال بذلك، بل قامت باستهدافهم وإطلاق النار عليهم في خرقٍ صارخٍ للقوانين والمواثيق الدولية، يرقى لمستوى جرائم الحرب".

اخبار ذات صلة
كاريكاتـــــير