جنين:
"بدي ماما" عبارةٌ من كلمتَين، كانت تصرخ بها طفلةٌ فلسطينيةٌ بينما يحملها والدها بين ذراعيه، ويجري بكل ما أوتي من سرعة. في الحقيقة، لا أحد يعرف أين كانت أمها تجري بين أكثر من ثلاثة آلاف نازحٍ فرّوا من نار العُدوان في جنين.
تحت جُنح الظلام، ووسط زخات الرصاص وقنابل الغاز السام، تسمع أنفاس المواطنين تتسابق في طريق النجاة. الآلاف أجبروا على الخروج من بيوتهم نتيجة تفاقم الأوضاع الإنسانية بداخلها، بينما تُواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي حصار المخيم وسط انقطاعٍ تامٍ للتيار الكهربائي، واستمرار إطلاق النار، وتحليق الطيران الحربي، وتجريف البيوت وتدمير الشوارع والمباني.
ورغم إعاقة وصول الطواقم الصحفية لتغطية ما يجري، فإن الصور المتداولة من داخل المخيم، تُظهر تخريبًا كاملًا للشوارع، وحرق بعض البيوت تحت دوي طائرات الحرب التي لا تغادر سماءه.
رئيس بلدية جنين نضال عبيدي، قال لـ"نوى": "إن ما يجري هو قتلٌ لكل مظاهر الحياة داخل المخيم. حتى تقديم المساعدات للباقين فيه بات أمرًا مستحيلًا".
وأضاف: "آليات الاحتلال العسكرية جرّفت شوارع المخيم بشكلٍ كامل، وقلبتها رأسًا على عقب، فلم يعد ممكنًا دخولها بأي سيارة. حتى سيارات الإسعاف تعجز عن ذلك، وهذا رفع عدد الشهداء منذ الأمس".
وتعجز طواقم البلدية -وفقًا لعبيدي- عن الوصول إلى قلب المخيم الذي دمرت جرافات الاحتلال بنيته التحتية بالكامل، وضربت شبكات الصرف الصحي فيه، وشبكات المياه، وقطعت خطوط الكهرباء، فباتت الأمور أكثر مأساوية.
ويكمل: "نتواجد الآن داخل مركز الخوري للإيواء، ونرى حجم المساعدات التي يقدمها سكان المخيم، هنا الناس فتحوا أبوابهم والفنادق، والكل في حالة تعاضد كامل".
ما يرتكبه الاحتلال من جرائم (والحديث لعبيدي) يشبه إلى حدٍ كبير ما حدث في العدوان على جنين عام 2002م، بهدف ضرب معنويات الناس. رمزية المخيم وأسطوريته في المقاومة لا يريدها الاحتلال، فالناس هنا ما زالت شامخة رغم كل شيء، وسكان مخيم جنين والمدينة على قلب إنسانٍ واحد، والعلاقات الأخوية هنا متينة، فشلت مساعي الاحتلال في ضربها.
الجرحى في الشوارع كما يروي عبيدي، بينما تطال نيران القناصة كل هدفٍ متحرك. حتى من يريد الخروج إلى سطح منزله لجلب القليل من المياه من الخزان للاستعمال الشخصي معرض لخطر الموت.
يستحيل على السيارات دخول المخيم بعد كل الدمار الذي لحق بالبنية التحتية فيه. الشوارع تبدو وكأن زلزالًا ضربها، "والمرعب أن الاحتلال يستخدم في تنقله هناك دبابات بجنازير، الأمر الذي يعني أنه حضّر فعليًا لهذه الجريمة، وأجرى الاستعداد لها منذ وقتٍ ليس بالقليل" يعقب.
"لن نعتاد على الموت ولن نقبل به أبدًا" يؤكد عبيدي، متابعًا بحزم: "ولن نقبل بالظلم، فالمخيم يعيش حالة توافق حول فكرة المقاومة، وهنا الكل يحمل رسالة: نحن أصحاب حق، وإنا هنا باقون".