شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم السبت 20 ابريل 2024م09:03 بتوقيت القدس

محل "أبو جميل" ذاكرة تحفظ تاريخ المدينة

28 يناير 2023 - 19:26

غزة - شبكة نوى :

في سوق الزاوية التاريخي القديم وسط مدينة غزة، رائحة التوابل والبهارات، الخضراوات الطازجة والفواكه المرتّبة بعناية، أصوات الباعة، والناس، وكل شيء يوحي بسير الحياة وتقدم الزمن، من بين ذلك كله ستشدك رائحة حبر عتيق تفوح من كتب صبغ الزمان على أوراقها لونًا بنيًا، تحمل أخبار أمم مضت وبقي إرثها العريق.

تصطف تلك الكتب على بسطة أمام محل صغير متواضع، محفوفة بأوانٍ نحاسية وخشبية وآلات قديمة وقطع نادرة كستها طبقة غبار خفيفة. دون أن تشعر ستقودك قدماك إلى الداخل لترى مزيدًا من التاريخ والحضارة الغزية الفلسطينية، وتقابل سليم الريس (أبو جميل) الذي جمع ذلك كله في مكان يضج بالذكريات.

قطعٌ من الماضي

بدخولك المحل تقابلك ثلاث ثريات كبيرة بارزة تتدلى من السقف برشاقة.، في الجانب الأيمن خزانة كبيرة تترتب فيها الكتب بشكل عفوي وتلقائي، كتب في شتى المجالات والعلوم، منها باللغة العربية وأخرى بالإنجليزية والفرنسية يزيد عمر بعضها على 100 عام، وتستند إلى خزانة الكتب أريكة خشبية قديمة وضعت عليها سجادة صلاة، يجلس عليها العم أبو جميل.

أما الجانب الأيسر ففيه خزانة أخرى، فيها كل شيء تتوقعه أو ربما لا تتوقعه، مذياع قديم وأشرطة، كاميرات بسيطة بإصدارات قديمة جدًا عندما كانت الصورة تلتقط بقلب المصور قبل عدسته، حُلي وسلاسل فضية ومسابح، أباريق قهوة نحاسية، وسلَّات مصنوعة من القش.

 وزاوية أخرى فيها أباريق شاي زجاجية منقوشة، وأكواب وفناجين قديمة ومزهريات، كانت تُهدى للضيوف في الأفراح قبل عقود، وعبوات زجاجية كان يستخدمها العطارون عند تركيب الخلطات والأدوية العشبية.

وفي خزانة زجاجية بعيدة عن الأيدي يحتفظ أبو جميل "بمستندات قديمة وأوراق ووثائق تاريخية تؤكد أصول وجودنا في فلسطين التاريخية، وشهادات ميلاد ووثائق فلسطينية تعود للحكم العثماني"، وعلى جانب تلك الخزانة يُعلق سلسلة مفاتيح بيوت قديمة عمرها أكبر من عمر وجود الاحتلال على هذه الأرض.

أصلُ الحكاية

في البداية رفض أبو جميل الحديث بصفتي صحفية أرغب في كتابة تقرير عن محله، تصفحت بعض الروايات القديمة التي يقتنيها وسألته عن بعض العناوين التي توقعت أن أجدها عنده، ثم بدأ ينساب الحديث بسلاسة.

يقول: "بدأت وأنا في العاشرة من عمري بالبحث عن الأشياء القديمة والمستخدمة والاحتفاظ بها، كانت مجرد هواية ثم تحولت مع الوقت إلى مصدر رزق، أشتري ما يعجبني وأبيع ما أحتفظ به".

درس اللغة الإنجليزية فرع الترجمة، لكنه فضل أن يعمل فيما يهواه، معلِّلًا ذلك بقوله: "أحب العمل الحر".

يحصل أبو جميل على مقتنياته من أصدقائه وأقاربه ممن يريدون التخلص من أثاثهم القديم، فبالنسبة له كل شيء قديم له قيمة رمزية معينة حتى وإن كانت الأشياء بالية وقديمة في عين صاحبها، فهو يرى بعيني قلبه وعقله أن تلك المقتنيات تاريخ وعراقة وحضارة لا مجرد أثاث قديم.

ويزور الأسواق الشعبية بغزة ليبحث فيها عما يستحق الشراء من كتب وأواني وأدوات قديمة وغيرها، قائلًا: " أزور دائمًا سوق الفِراس، فأجد فيه ما يعجبني من بضائع وأثاث منزلي يودّ أصحابه بيعه بأسعارٍ رخيصة، فأشتريه وأحتفظ به".

"ما أغلى مقتنيات العم أبو جميل؟" سؤال راودني أثناء الحديث معه، فيتحرك بخفة نحو خزانةٍ آخرَ المحل، ويتناول ملفًا كبيرًا يضعه على الطاولة برفق يظهر منه كتب تآكلت بعض أوراقها بمرور الزمن. يقلب أبو جميل في الملف ويقول: "هذا الملف فيه أنفَس ما أقتنيه، كتب قديمة من المنهاج الفلسطيني الذي كان يُدرس في المدارس الفلسطينية قديمًا"، يعود بعض تلك الكتب لعام 1931م، تاريخ تلك الكتب أقدم من كيان يدعي أن له تاريخ هنا.

شغف متجدد

أما عن زبائنه ورواد محله فُهم قلة قليلة ممن يهتمون بالمقتنيات والكتب القديمة، وبعض السياح العرب والأجانب الوافدين إلى القطاع، الذين يتجولون في الأسواق القديمة للتعرف على عراقة المدينة وماضيها.

ويصف أبو جميل حركة البيع والشراء في وقتنا الحالي بـأنها "ضعيفة جدًا" مقارنة بالسابق، "كان البيع أفضل منذ دخول السلطة الوطنية الفلسطينية إلى غزة وحتى أحداث الانقسام عام 2007"، بعد ذلك فرض الحصار وتردي الوضع الاقتصادي في غزة، فقلَّ الإقبال على شراء المقتنيات القديمة، ويتابع: "المواطن اليوم بالكاد يدبر قوت يومه ولقمة عيشه فهذه المقتنيات كماليات بالنسبة له".

ويعزو أبو جميل ندرة الزبائن والزوار لمحله، إلى انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي صرفت الشباب عن الاهتمام بالقراءة والبحث عن الكتب، "بضغطة زر على محرك البحث، يحصل الشخص على أي معلومة يريدها دون الحاجة للقراءة في أي كتاب".

أسألُ أبو جميل عما يدفعه للمجيء كل صباح ليفتح باب محله الذي يزيد عمره على 35 عامًا، ويرتب مقتنياته على الرصيف مرة أخرى دون أن يتعب أو يتسلل إلى روحه اليأس من قلة الزوار، فيقطع سؤالي وتعجبي بابتسامة المتفائل ويقول: "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس".

يحافظ العم أبو جميل على جزء أصيل من تاريخ مدينة غزة، يمكنك زيارته كلما شدك شوق التعرف على الماضي العريق، واقتناء شيء منه، فمحله مستودع للجمال العتيق، لأصالة ماضي المدينة وعراقتها، ودليل للتعرف على عادات أهلها وطرق معيشتهم قديمًا، فلا يكفي وصف محله بأنه كتاب تاريخ يأخذك إلى حياة الأجداد.

كاريكاتـــــير