بيت حانون – شبكة نوى :
انتهت رجاء من ارتداء قميصها الزهريّ المُلبّد بالأسود وبنطلون الجينز، فأمسكت بـ"الآي لاينر" وخطّت جِفنيها باللون الأسود، اللذان بالكاد نجحت في رسمهما، فهي لم تعتد وضع المساحيق أو شرائها، ثم قبضت شعرها بيديها، رفعته لأعلى وربطته برباطٍ زهري.. تحسّست ظفيرتَها الطويلة ناظرةً للمرآة الصغيرة المعلّقة على جدار غرفتِها، وابتسمت.
أمست رجاء المصري – 22 عامًا- جاهزةّ لاستقبال محبوبِها أحمد المصري -21 عامًا- الذي وعدها بزيارتها بعد الإفطار مباشرة وقد جهّز المال لحجز فستان زفافها الأبيض الذي اختارته قبل بضعة أيام.
أحمد وعدَها أن يكون يوم الجُمعة هو أجمل ذكرى في حياتِها، حيث يصادف يوم زفافِها وثاني أيام عيد الفطر، لكن قذيفةً مدفعية ضربها جيش الاحتلال الصهيوني على أحمد بشكل مباشر أخلَفَت وعدَهُ، حيث مزّقت حلمهما وأبادت فرحتهما شرق بيت حانون.
-شبكة نوى- التقت برجاء التي أذبلت الدموع عينيها في بيتها الواقع في بيت حانون لتسرد الحكاية:" كان أحمد يجمع التبن طوال شهر رمضان قرب الحدود، على أمل أن يبيعها قبل الفرح ويوفر مبلغًا من المال من أجل حجز بدلة العرس وبعض الإكسسوارات، وحين تكوَم التبن كجبلٍ كبير وجاء المشتري وبدأ أحمد بتعبئتها في أكياس لتسليمه، قصف الاحتلال الصهيوني المكان بشكل مباشر فاستشهد أحمد والمشتري على الفور وخمسة من الأطفال من نفس عائلة المصري كانوا يطلقون عليه دومًا "العريس"".
استشهد أحمد قبل عيد الفطر بيومٍ واحدٍ فقط؛ وباستشهاده حلّ الحزن محلّ الفرح، واستُبدِلت ملابس العيد والفرح بملابس الفقدِ والحزنِ، تقول رجاء:" تمام السادسة من يوم الاثنين، كنتُ أجهّز نفسي لاستقباله، وكل بلدة بيت حانون لا تتسع لفرحتنا، فالحب الذي جمعنا أعمق من أن أقدر على وصفِه، فأنا لستُ اجتماعية ولا لدي القدرة على التعبير كأحمد الذي كان طليق اللسان، فكنت ألقي بمسئولية الحديث والتعبير عليه، وكان يسعدني أنه يُكمّلني من هذه الناحية".
وتضيف:" كانت تلك القذيفة هي الأولى في العدوان على غزّة، سمعتُها ولا أدري كيف وقعتُ أرضًا وتعرضت لرضوض في ذراعي وساقي، وما لبثت أن تمالكتُ نفسي واعتدلتُ وخرجت من الغرفة حتى رأيت الوجوهَ حزينة في البيتِ وكثرت الهمهمات والتمتمة، وأنا أُكذّب ما قالوا، قلت مستحيل أن يكون قد استُشهِد وأنا أجهز نفسي للقائه".
كبر الصدمة لم يتسع لقلب رجاء الحنون، التي لطالما ذهبت برفقته للسوق ورفضت أن تطلب أي شيء مراعاةً لظروفه المادية الصعبة، بينما هي في أمسّ الحاجة للكثير من الأشياء، وهي التي كانت تكتفي بلقائه على رمال شاطئ البحر أو فوق الجبل المسمى "جبل العشاق" بالقرب من بيتيهما في بيت حانون، كي لا ترهقه ماديًا في شراء المشروبات وغيرها.
لم تُصدّق الخبر إلا حين رأت أحمد في الثلاجة، تُعبّر:" انقلبت حياتي رأسًا على عقب، فلو تعلمون كم كان بيتنا سعيدًا بقرب موعد زفافنا لعلمتم كم كان خبر استشهاد أحمد صاعقًا، فهو الذي ملأ بيتنا بالحب والفرح، لم يقابله أحد في بيتي إلا وأحبَّه".
وتكمل:" كنت وعدتُ نفسي أن أكون له زوجةً وأختًا وأمًا فهو الذي حُرِم من والدته بعمر السابعة حين غَدر بها الاحتلال في فترة الهدنة في العدوان على غزّة عام 2008، كانت تحمل الفِراش فوق رأسها عائدةً لبيتها بأمان قبل أن يقذفها الاحتلال بصاروخٍ تشهد على جُرمِه أشلاؤها التي تناثرت في كل مكان".
عادت رجاء لبيتِها تتفقّد كِسوتَها التي ملأت الغرفة، وملابسَه وأغراضه الكثيرة التي اشترتها له مُؤثِرةً إياه على نفسِها، قبّلتها وبلَّلتها بدموعها الحارّة، حتى غفت بجوارِها لكثرة ما أنهكها البكاء، وحلمت بأحمد يزورها ويفكّ ربطة شعرها ليُسدِله على كتفيها كعادته كلما كان يزورها، وحين استيقظت تمنّت لو أنها لا تفيق إلا بجواره.
أرجعت والدة رجاء إصبع النقش والحناء التي جهّزتها لحفلة "الحنّة"، وألغت رجاء حجز البدلة والإكسسوارات، وتوقّفت عن التّدرّب على الرقصة التي تدّربت عليها برفقة أحمد، لقد أُلغِيَ العُرسُ الذي كان يفترض أن يقام في شارع منزل رجاء الذي دكّ الاحتلالُ بيوتَه دكًا بصواريخه وقذائف مدفعياته ليبوح الشارعُ والجدرانُ بحزنِها وعزائها.






























