شبكة نوى، فلسطينيات: بريشته حلَّق في فضاءٍ واسعٍ مفتوح، لم تقيّدهُ إلا رسالة الفن التي يؤمن أنها وُجِدت كي تُكون نورًا يضيء قتامة الأيام. بين لوحاته وألوانه أمضى الفنان التشيكيلي خالد نصار واحدًا وعشرين يومًا، في الحجر الاحترازي بإحدى مدارس دير البلح وسط قطاع غزة، بعد أن قرر أن لا يضيع وقته هناك هباء.
شكلت التجربة للفنّان "إلهامًا" سيما وأنه شعر بالمكان يشبه كثيرًا، تلك الأماكن التي اعتاد فيها على ممارسة الرسم، مرسمه الخاص، والورشات التي كان يشارك فيها خارج فلسطين، لقد كان يرى في ريشته "سلاحًا" يمكن أن يواجه به أكبر عدو، حين يُضمّن في لوحاته رسائل الفرح والحرية والحب والطفولة. كيف أنتج نصار (30) لوحةً خلال تلك المدة؟ الحكاية تحكيها "نوى":

كإجراء عمليٍ بحالة التأثر التي عاشها الفنان التشكيلي بالموقف والحدث الذي يعايشه لأول مرةٍ في حياته، سارع نصار إلى إدارة مركز الحجر الصحي، وطلب منهم توفير مواد وأدوات للرسم، لإنتاج 15 لوحة، يتم عرضها في آخر يومٍ للحجر الاحترازي، كنتاجٍ إيجابي ملموس.
"توثيق التجربة" كان الهدف، في حين لم تتوانى إدارة المركز عن تلبية الطلب، يقول: "وفروا لي كل احتياجاتي من أدواتٍ ومعدات للرسم، فجأة تحولت غرفتي إلى مزارٍ من قبل المحجورين من متذوقي الفن".
أثرت الحالة النفسية للفنان نصار في أول أيام الحجر على لوحاته، فجاءت على شكل "بلوكات صعبة"، بألوانٍ قاتمة، لكنها لم تلبث بعد أيامٍ إلا أن تحولت إلى مقاطع انسيابية جميلة، يعلق نصار: "ممارسة الرسم والأجواء التي صاحبته من قبل المحجورين، انعكس على حالتي النفسية، وبالتالي على ما أنتجه من لوحات".

تمكن نصار من رسم ما يزيد عن ثلاثين لوحة، استخدم خلالها الجلد بديلًا للقماش، كون الرسم عليه أسرع. اللوحات كلها لاقت استحسان وإعجاب المحجورين الذين كانوا يحاولون خلقَ أجواءٍ مختلفة، تُمكنُهم من التغلب على مخاوفهم وهواجسهم، بسبب فايروس كورونا".
تُظهِر الصور التوثيقية لعملية إنتاج اللوحات، المحجورين، من كافة الأعمار يلتفون حول الفنان نصار، وملامحهم تضج بالسكينة، في الوقت الذي يعيشون فيه بعيدًا عن منازلهم وذويهم، يترقبون ما يمكن أن تُظهره نتائج الفحوصات المخبرية.
جسّد نصار في لوحاته فايروس كورونا، كما تخيله، وكيفية الوقاية منه عبر إرشادات مباشرة في بعض اللوحات، وبرمزيةٍ في بعضها الآخر.

يضيف لـ "نوى": "بطبيعتي لا أحب توجيه الرسائل المباشرة، أو رسم الصور الواضحة، بل أترك المجال لأن يشاركني المتلقي تحليل وتفسير اللوحة، وفق مشاعره وحالته حتى نلتقي في نقطة معينة"، لافتًا إلى أنه في بعض الأحيان، يكون تحليل رواد معارضه، مخالفًا تمامًا لفكرته التي أراد إيصالها، "وهذا يثري اللوحة، ويزيد من جماليتها، أن يكون المتلقي وحالته جزء من تحليل اللوحة".
ويتابع: "نظرًا لأسلوبي غير المباشر، لم يتفهم الكثير من المحجورين لوحاتي، الأمر الذي جعلني أتجه خلال الحجر، لرسم لوحاتٍ مباشرة عن الطبيعة والجمال"، مكملًا: "في موضوع التوعية بفايروس كورونا، استخدمت اللغة المباشرة، بحروفٍ يمكن أن تكون جملًا كاملة كـ "خليك بالبيت".
استطاع نصار تجسيد مشاعر زملائه في الحجر ومخاوفهم، عبر الألوان التي يقوم بالمزج بينها وتجييرها لتحقيق الهدف من اللوحة، يقول: "سيطرت على مشاعري أوضاع المحجورين، وقصصهم، ومشاعرهم ومخاوفهم، وبلا إرادة مني بدأت أجسدها في لوحاتي".

حاول نصار كما يعبّر أن يخرج بالمحجورين من حالة التوتر، المصاحبة لظروف الحجر والحرمان من الحرية، بسبب فايروس كورونا، موضحًا أن ما كان يقوم به خلال الحجر، تركَ أثرًا إيجابيًا في نفسه ونفوس كل المحجورين.
تناول نصار في لوحاته الحجر من زاويته الإيجابية، ولم يحاول مطلقًا تأريخ التجربة بشكل سلبي فيما عدى ما يخص الفايروس بذاته "كون الحجر هنا لمصلحة أعلى من الرغبات الشخصية"، يقول: "أردتُ أن أوصل رسالةً مفادها أن الحياة لها وجوه جميلة غير الذي نظنه ونراه أمام أعيننا، حتى فايروس كورونا يمكن أن يكون له شكل إيجابي، فهو على سبيل المثال، كان سببًا في خفض نسبة التلوث في البيئة على مستوى العالم".

تمرد نصار على قسوة التجربة، ولعب دورًا إيجابيًا في التقريب بين الإدارة والمحجورين ممن لم يستوعبوا فكرة الحجر المفروضة وفق خطة الطوارئ، حتى وصلوا في نهاية الحجر إلى علاقةٍ وطيدة بين المحجورين والإدارة والأمن.
يؤمن نصار الذي شارك في ما يزيد عن 15 معرضًا داخل وخارج فلسطين، أن الألوان لغة عالمية، لا تحتاج إلى ترجمة، وأمنيته التي يتوق لتحقيقها، هي أن يرسم لوحة التحرير على أسوار القدس.

 
                 
            
 
                                                                    
 
                                            




































