شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الثلاثاء 21 اكتوبر 2025م19:36 بتوقيت القدس

يحيى برزق.. مُصوّر الضحكات "الأولى" شهيدُ "الأمل"!

14 اكتوبر 2025 - 11:37
الشهيد المصور يحيى برزق
الشهيد المصور يحيى برزق

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في زوايا أحد استوديوهات غزة الصغيرة، كانت أصوات الأطفال تمتزج بضحكات الأمهات. خلف الكاميرا، يقف يحيى برزق بابتسامته الهادئة، يضبط الإضاءة حول وجهٍ صغير لم يعرف بعد معنى الخوف، يلفّه ببطانية ناعمة، ويقول برقة: "هكذا، الصورة صارت تحكي عن الحلم."

لم يكن التصوير بالنسبة إليه مهنةً يجني منها المال، بل طقسًا من طقوس الفرح، ومقاومة ناعمة في وجه الحصار الطويل كما كان يصف. في كل جلسة تصوير، كان يقضي وقتًا طويلًا يهيّئ المولود، يمدّ يديه بحذرٍ كأنما يحمل الحياة نفسها. كان يردد لأصدقائه: "كل طفل أصوّره كأنه ابني، أحبه وأخاف عليه".

تحولت عدسة يحيى من توثيق لحظات الميلاد إلى تسجيل ملامح الفقد. كان يصوّر نزوح الناس ودموعهم، ويحتفظ في قلبه بصور الأطفال الذين التقط لهم ابتساماتهم الأولى.

لكن الحرب التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2023م غيّرت المشهد تمامًا. لم تعد الكاميرا تلتقط الزينة والمهد، بل الرماد والدماء. تحولت عدسة يحيى من توثيق لحظات الميلاد إلى تسجيل ملامح الفقد. كان يصوّر نزوح الناس ودموعهم، ويحتفظ في قلبه بصور الأطفال الذين التقط لهم ابتساماتهم الأولى، وقد صار كثير منهم ضحايا الإبادة.

في مساء الثلاثين من سبتمبر/أيلول 2025م، استهدفت طائرات الاحتلال مقهى في شارع البيئة غربي دير البلح، وسط قطاع غزة. كان يحيى هناك، دقائق فقط، قبل أن تتحول السماء إلى نارٍ والشارع إلى ركام.

زوجته روان كانت في المنزل حين دوّى صوت الانفجار. تقول وهي تحاول أن تحبس دموعها: "شعرت أن شيئًا غير طبيعي يحدث. سمعت صوت الطائرات، اتصلت به ولم يجب، وبعد لحظات جاء الانفجار. ركضت نحو الشارع، وكنت أشعر أن مكروهًا أصابه. وجدت ابني حمود يصرخ، ودمه على وجهه: بابا استُشهد".

تزيد السيدة بصوتٍ يحترق وجعًا: "ابني قال لي أن والده أوصاه: خذ بالك من ماما ومن علي. صرت أجري والدنيا تدور من حولي، وحين وصلت للمكان، رأيت جسده ساكنًا، ملامحه كما لو أنه نائم. كان أكثر من زوج، أكثر من حبيب، كان صديقي وأماني، ورحل تاركًا فراغًا لا يُملأ".

تتنهد روان وتتابع: "كان دائمًا يقول إن الكاميرا تجعله يشعر أن في البلد حياة رغم كل شيء. اليوم رحل ومعه الحياة".

"أصوّر الأطفال لأن وجوههم تحفظ ما تهدمه الحرب، الصورة هي وثيقة ضد النسيان".

كان يحيى معروفًا في غزة بـ"مصور الأطفال"، أو كما أحبّ الناس أن يلقبوه: "مصور الأحلام". مئات الأطفال التقط لهم صورهم الأولى؛ صورًا احتفظت بها الأمهات كأول ذاكرة للفرح. لكن كثيرًا من هؤلاء الأطفال استُشهدوا لاحقًا في الحرب، وبعضهم غادر الحياة مرتديًا الملابس ذاتها التي ظهر بها في صوره الجميلة. في مقابلةٍ سابقة له قال: "أصوّر الأطفال لأن وجوههم تحفظ ما تهدمه الحرب، الصورة هي وثيقة ضد النسيان".

تتابع زوجته: "شغف التصوير لم يفارق يحيى حتى في أحلك الظروف. كان يحمل الكاميرا أو الهاتف أثناء النزوح، يصوّر النازحين، ضحكات الأطفال وهم يلعبون بالتراب، كان يقول دائمًا: يجب أن نوثّق كل شيء، ليعرف العالم أننا بشر".

ثم تصمت قليلًا قبل أن تضيف بصوتٍ مبحوح: "كان أحيانًا يفقد القدرة على تصوير الشهداء، خصوصًا الأطفال، لكنه كان يقول لي إنه مضطر، لأن الصورة هي التي تخلّدهم. لم يكن يحتمل مشهد الوداع، لكنه كان يختبئ خلف عدسته ليمنحهم حياة ثانية".

تجلس روان اليوم قرب كاميرته التي ما زالت في مكانها، تنظر إليها بحنينٍ يقطر وجعًا وتتمتم: "يحيى لم يمت، فقط غاب عن الصورة، أما الصور التي التقطها فستظل تحكي عنه، وستبقيه بيننا".

في زمنٍ تحرق فيه الحرب كل جميل، كانت عدسة يحيى برزق تحاول أن تستعيد شيئًا من الضوء المفقود. صوره كانت نوافذ صغيرة نحو عالمٍ طبيعي، فيه طفلٌ يبتسم دون خوف، وأمٌّ تضحك بطمأنينة نادرة.

لكن حين انطفأت عدسته، لم تنطفئ ذاكرته. فصوره ما زالت تنتقل من شاشة إلى أخرى، من قلبٍ إلى قلب، لتقول إن المصور الذي وثّق الميلاد، خُتمت حياته بالموت، وإن الضوء الذي أحبّه لم يخفت، بل صار أكثر حضورًا في عيون من أبقاهم حبه أحياء.

كاريكاتـــــير