غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
لم تمنح الحرب الإسرائيلية على غزة الطفلةَ ميس محمد عابدين فرصة تحقيق حلم والدها الشهيد، الذي غادر حياتها باكرًا، فيما لا تزال ذاكرتها الغضّة تحمل دفءَ ابتساماته وكلماته التي كان يرددها كثيرًا: "ما أجمل ابتسامتك يا ميس، ستصبحين طبيبة أسنان لتصنعي للناس ابتسامات جميلة".
كان والد ميس يعمل فنّي سيارات (ميكانيكيًا)، وقد استجاب لنداء أحد الزبائن بعد أن تعطلت سيارته في مدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة، أثناء العملية العسكرية الإسرائيلية الواسعة في ديسمبر/كانون الأول 2023م، التي استمرت أربعة أشهر. لكنه ذهب ولم يعد.
غارة جوية إسرائيلية بطائرة مسيّرة أنهت حياته وهو يصلح السيارة. تقول الطفلة ذات الأحد عشر عامًا بصوتٍ متهدّج: "منذ أن جاءنا خبر استشهاد والدي لم تعد الحياة كما كانت، فقدتُه أنا وشقيقاي، وغرقت أمي في نوبة بكاء لم تنتهِ بعد".
كانت الأسرة قد نزحت إلى خيمة في مدينة رفح المجاورة، لكنهم عادوا إلى خان يونس بعد العملية العسكرية الثانية في مايو/أيار 2024، ليجدوا منزلهم كومة ركام. ما زالوا يعيشون في خيمة متهالكة لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء، تفتقر للخصوصية، وتكاد تنهار من الوهن.
وسط هذا القهر، وجدت ميس بصيص أمل حين تم قبولها في مدرسة جديدة للأيتام افتُتحت مؤخرًا في منطقة المواصي غربي خان يونس. تقول بابتسامة خجولة: "كنت سعيدة جدًا عندما علمت أنني من بين المقبولين، سأعود إلى الدراسة من جديد، وسأحقق حلم والدي الشهيد".
ثم تضيف، وهي تشدّ على حقيبتها الصغيرة: "أريد أن أدرس وأتفوق وأصبح طبيبة أسنان، وأهدي نجاحي لروحه".
لطالما تمنت ميس انتهاء الحرب، قبل إعلان وقف إطلاق النار في غزة، "فأنا لا أريد لأطفال آخرين أن يصبحوا أيتامًا مثلنا. لقد كبرنا قبل الأوان، نقف في طوابير طويلة لنحصل على بعض الطعام من التكيات الخيرية، أو نركض وراء صهاريج الماء في الحرّ والغبار".
قصة ميس ليست الوحيدة. فـربا حسين الشاعر (11 عامًا) تحمل حكاية أخرى من الحزن ذاته. تنتمي لأسرة مكوّنة من ثمانية أفراد، وتقول إن والدها أُصيب بعيار ناري أطلقته عليه طائرة "كوادكابتر" إسرائيلية، وظل يصارع جروحه طويلًا. وبعد تعافيه، أصيب بسرطان القولون نتيجة شظايا الرصاصة العالقة في جسده، وتوفي بعدها.
تنهار ربا باكية وهي تروي قصتها: "كان أبي يحلم أن أكبر وأتعلم وأصبح طبيبة تعالج المرضى، وأنا عاهدت نفسي أن أحقق حلمه مهما كان الطريق صعبً".
نزحت ربا مع أسرتها سيرًا على الأقدام من خان يونس إلى رفح، بعد أن فقدوا كل شيء، ثم استقروا في خيمة بالمواصي لا تقيهم شيئًا من الحياة القاسية. تقول: "فقدتُ الكثير من صديقاتي وزميلاتي، لكنّي متمسكة بالأمل في أن تعود المدارس، وأن أعود للدراسة".
مدرسة الأيتام التي التحقت بها الطفلتان جاءت كنافذة للحياة في وجه الدمار. وفق القائمين عليها، تضم المدرسة ثمانية صفوف دراسية، وعيادة طبية بدوام كامل، وخيمة للمهارات الحياتية، وأخرى للّعب الداخلي، وساحة خارجية، ومقار إدارية ومرافق صحية.
وتستهدف المدرسة حاليًا نحو 1150 طالبًا وطالبة من المرحلة الابتدائية، وهي الفئة الأكثر تضررًا وتهميشًا، خصوصًا الصفين الأول والثاني الابتدائي، إذ حُرم أطفالها من التعليم تمامًا، ولا يعرفون القراءة أو الكتابة، ولا يرون في المدرسة إلا ملجأً أو مركزًا للإيواء. لاحقًا، من المقرر أن تلتحق بها فئات الإعدادية والثانوية، ويتولى التدريس فيها كادر تعليمي مختص.
كما تضم المدرسة عددًا من المرشدين التربويين، وطبيب أطفال، وأخصائيًا نفسيًا، وممرضين بدوام يومي، في محاولة شاملة لاحتضان الأيتام نفسيًا وتعليميًا وصحيًا.
يقول مدير مديرية التربية والتعليم برفح أحمد لافي لـ"نوى": "هذه المدرسة جاءت لخدمة أبنائنا الأيتام في مواصي رفح، لتلبي احتياجًا كبيرًا للنازحين والسكان في هذه المنطقة."
ويشير إلى أن هناك تنسيقًا مع وزارة التربية والتعليم في رام الله لاعتماد المدرسة رسميًا، وفق الشروط المعمول بها، وأبرزها تدريس الرزم التعليمية المعتمدة، وتعيين معلمين مختصين وأكفاء، عبر إجراءات دقيقة ومنظمة.
تقدّر وزارة التربية والتعليم أن الحرب دمّرت نحو 70% من مدارس قطاع غزة بين تدمير كلي وجزئي، فضلًا عن مقتل آلاف الطلبة والمعلمين والعاملين في السلك التعليمي، ما يؤكد أن التعليم كان أحد الأهداف المباشرة للاحتلال.
ويختم لافي بالقول: "لا يمكننا تعويض اليتيم عن فقد أبيه أو أمه، لكن من واجبنا أن نضمن له مستقبلًا، وأن نساعده على شق طريقه نحو حلمه".
وتشير أحدث إحصاءات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إلى أن الاحتلال طوال فترة الإبادة، كان يحوّل يوميًا 77 طفلًا في القطاع إلى أيتام، ليتجاوز عدد الأيتام الإجمالي 56 ألف طفل وطفلة.
وفي ظل هذا الواقع القاسي، تبقى مدارس الأيتام مثل تلك التي في مواصي خان يونس فسيلة صغيرة للحياة، تُزرع في تربة الألم، على أمل أن تنبت تعليمًا وأمانًا وحلمًا جديدًا لأطفالٍ لم يعرفوا من طفولتهم سوى اسمها.