شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الثلاثاء 21 اكتوبر 2025م19:36 بتوقيت القدس

إخلاء.. وشرط النجاة: "عشر دقائق"!

13 اكتوبر 2025 - 09:40

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"عشر دقائق فقط للهروب من الموت"، بهذه العبارة الجافة والمروعة كان ضباط المخابرات الإسرائيلية يبدؤون مكالماتهم مع العائلات الفلسطينية في قطاع غزة، يطلبون فيها إخلاء منازلهم خلال وقتٍ لا يكفي حتى لالتقاط الأنفاس. عشر دقائق تختصر المسافة الزمنية فيها بين رنين الهاتف والقصف، بين الحياة والموت.

المكالمات التي تحولت إلى جزءٍ من روتين الخوف اليومي، لم تعد تُفهم إلا كإعلانٍ مسبق للكارثة، لا يملك من يسمعها سوى الانصياع، ومحاولة النجاة بما تبقى من حياة.

في كل مرة، كانت تتكرر المشاهد نفسها: عائلات تركض مذعورة، أطفال يبكون، نساء يصرخن، رجال يجرّون ما استطاعوا حمله من متاعٍ أو ذكرى، قبل أن تُمحى حياتهم السابقة بضربةٍ واحدة من صاروخ. كل شيء يُترك خلفهم: البيوت، والصور، والأثاث، والطمأنينة.

"كانت عشر دقائق من الرعب الخالص. الكل يصرخ، الأطفال يبكون، والنساء يرمين الأمتعة من النوافذ. لا أحد يعرف إلى أين يذهب، أو ماذا يأخذ؟ خرجنا كما نحن، وبِتنا ليلتين في الشارع نبحث عن مأوى".

مريم أبو جمعة واحدة من آلاف النازحين، وسط قطاع غزة. تتذكر اللحظات التي سبقت قصف برج مشتهى، الذي كانت تسكنه عشرات العائلات. بعد اتصالٍ من ضابط المخابرات الإسرائيلية يطلب الإخلاء خلال عشر دقائق، انقلب المبنى إلى فوضى من الصراخ والدموع.

تروي مريم لـ"شبكة نوى": "كانت عشر دقائق من الرعب الخالص. الكل يصرخ، الأطفال يبكون، والنساء يرمين الأمتعة من النوافذ. لا أحد يعرف إلى أين يذهب، أو ماذا يأخذ؟ خرجنا كما نحن، وبِتنا ليلتين في الشارع نبحث عن مأوى".

نزحت مريم عشر مرات منذ بدأت الإبادة. تقول وهي تغالب دموعها: "أن تحمل بيتك معك في حقيبة أو في ذاكرتك، وأن تعيش هذا السيناريو مرةً بعد أخرى، يفوق قدرة الإنسان على الاحتمال."

أما أيمن عوض، من مخيم الشاطئ، فقد استيقظ في الثانية فجرًا على مكالمةٍ تطلب منه مغادرة المنزل في شارع السوق فورًا. خرجت العائلة مذعورة لا تحمل سوى أوراقها الثبوتية، وتركوا خلفهم كل شيء.
يسرد أيمن: "أصعب مشهد في حياتي كان كبار السن يُحملون على الأكتاف، وأطفال نائمون يُسحبون بسرعة وسط الصراخ. بعد نصف ساعة، قُصف المنزل، رأيته مدمّرًا بالكامل. عُدتُ فقط لأتأكد من أنه اختفى".

اضطر أيمن للنزوح سيرًا على الأقدام مع أطفاله الأربعة، ووالده المسن، وزوجته، باتجاه الجنوب. رحلة كانت محفوفة بالموت في كل خطوة، وسط استمرار القصف حتى في المناطق التي تصفها دولة الاحتلال بـ"آمنة" كمواصي خان يونس.

يقول أيمن: "لم نعد نصدق شيئًا. الجنوب لم يكن آمنًا. لم يكن هناك مكان آمن في غزة. كان كل ما نريده في ذلك الوقت أن تتوقف الحرب لنعيش فقط".

وفي منطقة الصفطاوي شمالي مدينة غزة، كانت شيماء أبو سعدة في عملها حين اتصلت بها شقيقتها تبكي وتخبرها أن ضابطًا من ضباط مخابرات الاحتلال، أمرهم بإخلاء المنزل خلال عشر دقائق فقط".

"لم يمنحونا وقتًا لأي شيء. لم نفكر في الممتلكات، فقط في والدينا المسنين، في أطفالنا، في أن نلحق بمن نحب قبل أن يُمحى كل شيء. كنا في كل مرة ننزح فيها، نظن أنها الأخيرة، لكنها لا تكون كذلك".

تصف شيماء تلك اللحظات بأنها لم تكن دقائق، بل ثوانٍ خانقة. هرعت مسرعة إلى بيتها وهي تصرخ عبر الهاتف: "خذي ما أعددناه للنزوح بسرعة!"، لكنها حين وصلت، كان الوقت قد انتهى، والسماء كانت تمطر نارًا.

تقول لـ"نوى": "لم يمنحونا وقتًا لأي شيء. لم نفكر في الممتلكات، فقط في والدينا المسنين، في أطفالنا، في أن نلحق بمن نحب قبل أن يُمحى كل شيء. كنا في كل مرة ننزح فيها، نظن أنها الأخيرة، لكنها لا تكون كذلك".

هكذا تتكرر الحكايات في غزة: لا فارق بين الليل والنهار، بين مدينةٍ وأخرى، ولا بين منزلٍ وخيمة. القصف لم يستثنِ أحدًا، ونداءات الإخلاء كانت تأتي كإنذارٍ باردٍ قبل الموت بلحظات. عشر دقائق فقط، بالكاد تكفي لإنقاذ الأرواح، لا أكثر.

أما من فقدوا بيوتهم وأحباءهم، فلم يعودوا يبحثون عن رفاهية النجاة، بل عن ليلةٍ واحدة دون خوف، عن مأوى لا يهدده اتصالٌ جديد، يخبرهم بأن "عشر دقائق فقط تفصلكم عن الموت إن لم ترحلوا".

كاريكاتـــــير