شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الثلاثاء 21 اكتوبر 2025م19:40 بتوقيت القدس

أملٌ لا يموت.. وحكايا "نهوض" من رحم الإبادة!

13 اكتوبر 2025 - 09:26

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

عامان على الإبادة، ظلت غزة خلالهما تخوض صراع الوجود بإصرارٍ يشبه المعجزة، ونسجت الحياة من بين أنقاضها كما تنبت الزهرة في شقّ الحجر. عامان من الحرب لم يكفيا لإطفاء جذوة الصمود في قلوب الغزيين، الذين ما زالوا يصنعون الأمل من اللا شيء، ويمارسون الحياة كأنهم يتحدّون الموت ذاته.

في جنوبي القطاع، وبرغم إعلان وقف إطلاق النار في غزة، تتناثر الخيام الممزقة بين الركام، بعضها من قماشٍ مهترئ لا يقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء، وبعضها قائمٌ على أعمدةٍ مائلةٍ بالكاد تصمد أمام الرياح.

رغم ذلك، تستمر الحياة. كل زاوية هنا شاهدة على موتٍ وجوعٍ ونزوحٍ وفقدٍ، لكنها في الوقت ذاته تروي حكايةً أخرى عن إرادةٍ لا تُقهر.

"كل ابتسامة، كل لحظة لعب، هي طوق نجاة من الحزن. فرحة الأطفال تمنحنا القوة لمواجهة كل هذا الخراب".

وسط هذا المشهد، يسير المصور أحمد الضاش، مؤسس فريق "فرح بلا نهاية"، بين الخيام حاملًا كاميرته كمن يبحث عن ومضة حياة في العتمة. أحمد، النازح كآلاف غيره، يلتقط صور الأطفال وهم يضحكون بين الركام، ويقيم فعالياتٍ ترفيهية في مراكز الإيواء.

يقول لـ"نوى": "كل ابتسامة، كل لحظة لعب، هي طوق نجاة من الحزن. فرحة الأطفال تمنحنا القوة لمواجهة كل هذا الخراب".

وأضاف بصوتٍ يختلط فيه الحنين بالألم: "الطاقة الإيجابية التي نحملها، أنا وفريقي، تنبع من عمق الجراح. من داخل الألم نصنع الدافع للاستمرار. من يعيش هذه اللحظات معنا يدرك معنى أن تزرع البهجة في قلب طفلٍ أنهكته الحرب. كم مرة بكينا ونحن نحيي الفعاليات؟ كثيرة.. نبكي ونحن سعداء، لأن الفرح في غزة أصبح فعل مقاومة."

بينما عاش أحمد نزوحه بكل تفاصيله، واصل تنظيم فعالياته، متحديًا أصوات الطائرات التي لم تكن تغادر سماء القطاع، وصوت القصف الذي كان يتردد في خلفية كل مقاطع الفيديو التي يصورها كنبضٍ يومي للحرب.

على بعد أمتار من خيمته، تجلس ندى عمر، أمّ لطفلين أحدهما مصاب، فقدت زوجها وطفلتها الكبرى في كانون الثاني/يناير 2024، لكنها رغم الفقد التحقت ببرنامج الماجستير خلال الحرب.

في خيمتها الصغيرة التي تحوّلت إلى غرفةٍ ومطبخٍ وصالونٍ في آنٍ واحد بعد نزوحها من حي الزيتون إلى مواصي خانيونس، تقلب الخبز على نارٍ خافتةٍ لتطعم طفليها، بينما تقول بصوتٍ يملؤه الإيمان: "ما يدفعني للاستمرار هو يقيني أننا نستحق الأفضل دائمًا، ومن أجل أطفالي، فهم يستحقون أمًّا قوية تكون لهم قدوة".

الدراسة بالنسبة لها ليست مجرّد تحصيلٍ علمي، بل طوق نجاة من الحزن، وسلاحٌ في وجه الانكسار. تقول: "الدراسة حياة أخرى، كأنني أعيش في عالمٍ موازٍ بعيدًا عن سواد الواقع. أريد أن أثبت أنه رغم الظلام، يبقى الأمل ممكنًا. أدرُس ليس من أجلي فقط، بل من أجل من رحلوا ومن بقي. أنا الآن الأم والأب والأخت والأخ لأطفالي، وإن لم أتشبّث بالأمل، سينجرفون في العتمة".

"أحاول أن أجعل من ذكرياتي مصدر طاقةٍ لا وجع، وأواصل دراسة الماجستير في الدبلوماسية والعلاقات الدولية لأفهم هذا العالم من حولي، رغم أن رؤية واقع غزة المنهار تجعلني أحيانًا أفكر في التوقف".

تتذكر ندى أصعب لحظةٍ مرت بها حين أمسكت بيد ابنتها للعودة إلى المدرسة بعد النزوح: "في تلك اللحظة أدركت أن عليّ أن أواجه العالم بأسره، كي تحظى ابنتي بأمٍّ قوية لا تعرف الانكسار".

وتضيف بصوتٍ تختلط فيه القوة بالحزن: "أحاول أن أجعل من ذكرياتي مصدر طاقةٍ لا وجع، وأواصل دراسة الماجستير في الدبلوماسية والعلاقات الدولية لأفهم هذا العالم من حولي، رغم أن رؤية واقع غزة المنهار تجعلني أحيانًا أفكر في التوقف. لكنني أعود وأقول: إن التراجع ليس خيارًا."

في خيمةٍ أخرى تغمرها الشمس الحارقة، تجلس الدكتورة إيمان أبو موسى وسط مجموعةٍ من الأطفال حول سبورةٍ صغيرةٍ أقامتها فوق التراب. تقول وهي تمسح العرق عن جبينها: "الركام يغطي كل شيء، لكن بينه يولد الأمل. من تحت الغبار تزهر الحياة، ومن بين الحزن والألم تتفتح أعين الأطفال على حلمٍ جديد. أن نزرع العلم في قلوبهم هو فعل مقاومة ضد كل ما سُلب منا".

وفي رسالةٍ إلى الجيل القادم، تضيف بصوتٍ يشبه ضوء النهار في حدّته ودفئه: "تمسكوا بالعلم مهما كانت الظروف، فالقلم أقوى من السلاح، والكتاب أوسع من كل الأماكن المحاطة بالأسوار. كونوا نورًا لوطنكم، فأنتم الجيل الذي سيكتب قصة النصر بالحروف لا بالدموع".

يمثل أحمد وندى وإيمان وجوه غزة في صورتها الأصيلة: رغم الخسارة والنزوح والدمار، يظل الأمل حاضرًا، والعزيمة مشتعلة. الأطفال يضحكون ويلعبون رغم أصوات القصف، والطلبة يواصلون دراستهم رغم انقطاع الكهرباء وفقدان الموارد، والأمهات يحوّلن الحزن إلى قوة، والمعلمات يحوّلن الخيام إلى صفوفٍ دراسية تُزرع فيها بذور الأمل.

غزة التي أنهكتها الحرب لا تزال تخلق الحياة من بين الرماد، وتعيد تعريف معنى الوجود في كل يومٍ مرّ تحت السماء المشتعلة. إنها لا تموت، بل تُولد من جديد، في كل ضحكة طفلٍ، وفي كل قلمٍ يخطّ كلمةً على ورقةٍ داخل خيمةٍ تقاوم الريح.

كاريكاتـــــير