غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
بينما كانت العائلات الفلسطينية تهرع فارّةً من جحيم القصف في شمالي غزة، قبل إعلان وقف إطلاق النار، كانت الأرض في جنوبها تستعد لتتحوّل إلى سلعة تباع وتؤجر بالمتر!
حتى التراب لم يعد مجانًا في بلادٍ أثخنتها الحرب. هناك، حيث لجأ النازحون المنهكون، وجدوا أنفسهم أمام واقعٍ جديدٍ قاسٍ: المأوى أصبح تجارة، والمتر من الأرض حلمٌ يُشترى بثمنٍ يفوق طاقتهم.
كانت الرحلة نحو الجنوب أشبه بالفرار من موتٍ إلى موتٍ آخر. لم ينجُ النازحون من نيران الحرب، بل وجدوا أنفسهم وقد وقعوا في فخٍّ جديد من الاستغلال، بعضهم ممن لم يعُد شمالًا يعانيه حتى اللحظة.
مع غياب الرقابة والتنظيم، تحوّلت الأراضي الزراعية والخالية إلى "مساحات استثمارية" طارئة، تُؤجَّر للعائلات بأسعار تتراوح بين خمسة وعشرين شيكلًا للمتر الواحد، تبعًا لقدرة النازح ومزاج المؤجّر، في مشهدٍ يُجسّد مأساة لا تنتهي.
"وجدت أن علينا أن ندفع إيجارًا للأرض التي سننصب عليها خيمتنا! من أين آتي بالمال؟ هل للنقل؟ أم للخيمة؟ أم للأرض؟ كل شيء يحتاج إلى نقود لا أملكها".
قال رائد الدلو، النازح من حي الجلاء شمالي مدينة غزة، وهو أبٌ لخمسة أبناء، إنه قاوم حتى اللحظة الأخيرة قبل أن يترك منزله. "حاولت البقاء في بيتي قدر المستطاع، لكن الدبابات كانت تقترب، وخوف أطفالي كان يزداد يومًا بعد يوم. لم أجد خيارًا سوى الرحيل".
اضطر رائد إلى دفع كل ما يملك لتأمين وسيلة نقل نحو الجنوب، مضيفًا: "الهروب مكلف، ولا مصدر دخل لدينا. كل ما كنت أفكر فيه هو الوصول إلى مكانٍ آمن، أما الباقي فتركته على الله". غير أن المفاجأة كانت في الجنوب، إذ أضاف: "وجدت أن علينا أن ندفع إيجارًا للأرض التي سننصب عليها خيمتنا! من أين آتي بالمال؟ هل للنقل؟ أم للخيمة؟ أم للأرض؟ كل شيء يحتاج إلى نقود لا أملكها".
استأجر رائد قطعة أرض مساحتها 180 مترًا مقابل 1200 شيكل، أي نحو سبعة شواكل للمتر الواحد، ويعدّه سعرًا "جيدًا" مقارنة بغيره. يقول بأسى: "أعرف كثيرين استأجروا المتر بعشرة شواكل أو أكثر، الوضع صعب للغاية".
"تركنا بيوتنا وأملاكنا في الشجاعية وخرجنا بأرواحنا، واليوم ندفع إيجارًا على أرضٍ خالية! هذا استغلال واضح".
أما أمين العرعير، النازح من حي الشجاعية شرقي غزة، فوصَف رحلته إلى منطقة البصة في دير البلح بأنها "شاقة ومؤلمة". يقول: "استأجرنا قطعة أرض فارغة لا تتوفر فيها أي خدمات. المتر الواحد بعشرون شيكلًا، واستأجرنا مئة متر بمبلغ ألفي شيكل نقدًا دون أي تسهيلات. حتى الطريق كلفتني 1200 شيكل أجرة سيارة".
يضيف بغضب مكتوم: "تركنا بيوتنا وأملاكنا في الشجاعية وخرجنا بأرواحنا، واليوم ندفع إيجارًا على أرضٍ خالية! هذا استغلال واضح".
لا يملك العرعير اليوم مكانًا يعود إليه. يتابع بحرقة: "تمكنت من تدبير المبلغ هذا الشهر، لكن الشهر القادم؟ لا أعلم من أين. وأنا غارق في الديون. لسنا نازحين برغبتنا، بل مُهجّرين قسرًا، فهل يُعقل أن يُتاجر أهل جلدتنا بمعاناتنا؟ المعاناة فاقت كل حدود".
في المقابل، يبرر بعض أصحاب الأراضي تأجيرها باعتباره وسيلة للبقاء. الحاج أبو محمد (وقد اكتفى بذكر كنيته)، من سكان الزوايدة جنوبي القطاع، قال: "فتحت أرضي بدايةً للناس الذين أعرفهم، وراعيت ظروفهم، وبعضهم لم يدفع سوى مبلغ رمزي. لكن الأرض بحاجة إلى تنظيف وتسوية، ونحن أيضًا نحتاج إلى ما نعيش منه. ليست كل الحالات استغلالية".
ويضيف: "صحيح أن بعض الأشخاص بالغوا في الأسعار وطلبوا مبالغ كبيرة مقابل المتر الواحد، لكن ليس الجميع كذلك. المشكلة أن لا رقابة ولا تنظيم، وكل شخص يتصرف كما يشاء".
تضيع الحقيقة هنا بين حاجتين متناقضتين: من يبحث عن رزق، ومن يبحث عن مأوى، فيما يقف الضمير الإنساني في المنتصف حائرًا.
"استأجرت قطعة أرض بمساحة 49 مترًا مقابل 400 شيكل، بالإضافة إلى 40 شيكلًا لثمن المياه المالحة التي لا تصلح لأي استخدام".
على أرضٍ طينيةٍ مستأجرة جنوبي القطاع، تعيش لطيفة دياب محمد أبو شكيان ظروفًا قاسية بعد نزوحها من معسكر جباليا وفقدانها زوجها. وتخبرنا: "استأجرت قطعة أرض بمساحة 49 مترًا مقابل 400 شيكل، بالإضافة إلى 40 شيكلًا لثمن المياه المالحة التي لا تصلح لأي استخدام. الشهر الماضي تمكنت من دفع المبلغ، لكن الشهر القادم لا أعلم كيف سأفعل! أنتظر ما تقدمه المؤسسات الخيرية والتكايا لنتمكن من البقاء".
أما منى شكيان، زوجة شقيقها، فقد قُصفت خيمتها قبل أيام. تقول بصوتٍ مثقلٍ بالوجع: "كل شيء كان لي ضاع، حتى ملابسي الشتوية. استشهد زوجي، وأصبحت أنا المعيلة لأربعة أطفال. أقضي يومي بحثًا عن مكان أنصب فيه خيمتي بدون مقابل، وفي النهاية يقولون لي: إذا لم تدفعي، سيأخذ أحدهم مكانك".
هكذا باتت الخيمة امتيازًا لمن يستطيع الدفع، وكأن النجاة صارت مرتبطة بقدرة الجيب لا حاجة الإنسان.
النازحون الذين فرّوا من الموت، ولم يعد لهم مكان يعودون إليه، مضطرون للبقاء في خيامهم، فوق أراضٍ مستأجرة! يواجهون اليوم موتًا آخر، أكثر بطئًا وقسوة: موت الكرامة.
قصص رائد وأمين ولطيفة ليست سوى شواهد على مأساة أعمق من الحرب ذاتها. لقد تحوّل تأمين المأوى، وهو أبسط حقوق الإنسان، إلى عبءٍ ثقيل يُدفع ثمنه من تعب الفقر لا من رفاه الغنى. وفي غياب أي رقابة أو عدالة، يستمر الاستغلال كوجهٍ آخر من وجوه الكارثة.
النازحون الذين فرّوا من الموت، ولم يعد لهم مكان يعودون إليه، مضطرون للبقاء في خيامهم، فوق أراضٍ مستأجرة! يواجهون اليوم موتًا آخر، أكثر بطئًا وقسوة: موت الكرامة.
ما لم يحدث تدخلٌ فوري وعادل، ستظل قطعة الأرض الصغيرة هي الفاصل الأخير بين البقاء والضياع، وستبقى الخيمة المؤقتة شاهدًا على زمنٍ تحوّل فيه النزوح إلى تجارة، والنجاة إلى صفقة مؤلمة.