غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
تتناثر ذرات الغبار بين أطلال الأبنية المهدّمة في غزة، تحمل معها رائحة الموت وذكريات عامين من الإبادة التي لم يعرف لها الفلسطينيون مثيلًا منذ النكبة الأولى.
عامان من حربٍ إسرائيلية لم تُبقِ في المدينة علامةً على الحياة إلا وأحرقتها، بدأت في السابع من أكتوبر عام 2023م، عقب الهجوم الاستباقي الذي شنّته فصائل مقاومة فلسطينية على مستوطنات ومراكز عسكرية إسرائيلية، لتفتح الباب أمام فصلٍ جديدٍ من الصراع الممتدّ منذ عقود. فصلٌ أعاد رسم ملامح المنطقة وخلط خرائط السياسة والمصالح.
منذ اللحظة الأولى، كانت المواقف الدولية واضحة ومخيّبة للآمال. فقد سارعت الدول الغربية، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، إلى إعلان انحيازها الكامل للاحتلال الإسرائيلي تحت شعار "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، وقدّمت له كل أشكال الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي، دون أي اعتبار لحياة المدنيين الفلسطينيين. أما المواقف العربية والإسلامية، فجاءت متحفظة مترددة، أقرب إلى الحذر منها إلى الحسم، بينما كانت نيران الحرب تحصد أرواح النساء والأطفال، وتُحاصر غزة من كل الجهات.
خلفت الحرب أكثر من 75 ألف شهيد ومفقود، فيما تجاوز الدمار نسبة 90% من بنية القطاع، بتكلفة أولية تخطّت 70 مليار دولار.
ومع اتساع رقعة الحرب، انضمت جبهات جديدة إلى المواجهة، فتح حزب الله في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن خطوط إسنادٍ للمقاومة الفلسطينية، فيما سعت دول عربية إلى منع توسّع رقعة النار. لكن التحذيرات لم تجدِ نفعًا، إذ أطلقت "إسرائيل" حربًا بلا سقف، فكانت المجازر تتوالى والمجازر تُغلق على أخرى.
خلفت الحرب أكثر من 75 ألف شهيد ومفقود، معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب نحو 169 ألف جريح مدني بينهم آلاف حالات البتر والشلل وفقدان البصر، فيما تجاوز الدمار نسبة 90% من بنية القطاع، بتكلفة أولية تخطّت 70 مليار دولار، وفق المكتب الإعلامي الحكومي.
كانت تلك الأرقام كفيلة بتلخيص مشهدٍ للخراب لم يعرف العالم الحديث مثيلًا لحجمه، مشهدٌ جعل الحياة في غزة تُكابد البقاء وسط الرماد.
آمال معلقة
في مخيمٍ للنازحين جنوبي القطاع، يجلس عبد القادر الفيومي (64 عامًا) أمام خيمته المهترئة، يُقلّب مؤشر الراديو باحثًا عن بصيص خبر يوقف شلال الدم. يقول لشبكة "نوى": "يبدأ يومي على نشرة الأخبار الصباحية وينتهي مع البث المسائي، ولا شيء نفعله سوى انتظار أي بارقة أمل لوقف المقتلة والعودة إلى ركام بيوتنا".
ينظر عبد القادر إلى الأفق الملبّد ويضيف بصوتٍ مثقلٍ بالخذلان: "ما نعيشه نكبة ثالثة، نصحو كل يوم على مقترح جديد، على جولة مفاوضات، يحدّثنا الإعلام عن مؤشرات إيجابية، ثم ينهار كل شيء فجأة، ونعود إلى دوامة اليأس".
تبدّدت الهدن كما تتبدّد أحلام الناجين. لم تصمد سوى هدنة خجولة لستة أيام في نوفمبر 2023م، أعقبتها اتفاقية هشّة من ثلاث مراحل، انقلب عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سريعًا، لتسقط كل الآمال المعلّقة. حتى وعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومن قبله جو بايدن بإنهاء الحروب حول العالم بدت في مهبّ الريح.
في المقابل، كان نتنياهو يرسم مشروعه الأكبر، مدفوعًا بدعمٍ غربيٍ غير محدود، ليُعيد صياغة "الشرق الأوسط الجديد" على طريقته، حيث "إسرائيل" سيّدة المنطقة بلا منازع.
لم يُخفِ أطماعه في التوسّع جنوبي سوريا ولبنان، ولا سعيه لإنهاء حلم الدولة الفلسطينية. أما فصائل المقاومة، فقد أعلنت مطالبها الواضحة: الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، ووقف التهويد، وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967م.
يقول المحلل السياسي الدكتور أكرم عطا الله: "الوصول إلى اتفاق بين الطرفين أمرًا شبه مستحيل"، مشيرًا إلى تصلّب الموقف الإسرائيلي وإصرار المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية "الكابينيت" على تحقيق السيطرة الكاملة على غزة وإنهاء "حماس" وتجريد المقاومة من سلاحها. بينما تسعى الحركة إلى وقف الحرب بخروج الجيش الإسرائيلي من القطاع مع الحفاظ على سلاحها ووجودها السياسي، ما يجعل الهوّة بين الطرفين أوسع من أن تُجسر.
لم تأتِ التراجعات في مطالب المقاومة من فراغ، بل كانت نتيجة حصار وضغوط واستنزاف متواصل، في ظل عجزٍ دولي عن لجم آلة القتل الإسرائيلية. ومع استهداف "إسرائيل" للقيادات الميدانية البارزة، تغيّر ميزان المعركة.
كان اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في 31 يوليو 2024م بطهران، ضربةً صادمة في قلب الحلف الإيراني، تلاها اغتيال يحيى السنوار وشقيقه، ومحمد الضيف، ورافع سلامة. رسالة إسرائيلية مفادها أن يدها تطال الجميع.
توسّع عمليّاتي
ومن إيران إلى لبنان، امتدّت أذرع القتل في عملية أطلق عليها "تفجير البيجر" في 17 سبتمبر 2024م، أودت بحياة نحو ثلاثة آلاف من مقاتلي حزب الله وأعضائه، بينهم قيادات كبرى، في حين أتبعتها بعملية جوِّية وقعت يوم الجمعة 27 سبتمبر 2024، اغتيل فيها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، إثر عشر غارات إسرائيلية على مقرِّ الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت، وكان ذلك بمثابة فاتحةً طريق أمام اجتياحٍ إسرائيليٍ جديد لجنوبي لبنان، بذريعة ردع الحزب وإبعاده شمال الليطاني.
ولم تكتفِ "إسرائيل" بذلك، بل استغلت سقوط نظام بشار الأسد على يد أحمد الشرع في ديسمبر 2024م لتوسّع عملياتها داخل سوريا، فتدمّر مطاراتها العسكرية ومخازن السلاح وتحتل جبل الشيخ والقرى المحيطة.
في الوقت نفسه، وجّهت ضرباتٍ موجعة للمشروع النووي الإيراني، استهدفت مفاعلات "فوردو" و"نطنز" و"مجمع أصفهان"، واغتالت شخصياتٍ علمية وعسكرية بارزة مثل حسين سلامي وفريدون عباسي. كل ذلك جعل نتنياهو يرى نفسه في مهمةٍ "تاريخية وروحية" لتجسيد حلم "إسرائيل الكبرى".
لم تكن غزة وحدها في مرمى النار. في الضفة الغربية أيضًا، سقط أكثر من ألف شهيد وسبعة آلاف جريح منذ بدء الحرب، واعتُقل أكثر من 18 ألفًا وخمسمئة فلسطيني، وفق هيئة شؤون الأسرى. كما شهدت جنين وعين شمس ومخيمات أخرى تدميرًا واسعًا، فيما تصاعدت اعتداءات المستوطنين وسط صمتٍ دوليٍ يكاد يوازي التواطؤ.
الواقع الميداني شجّع اليمين الإسرائيلي على تسريع مخططاته لضم الضفة، في مقدمتها مشروع "E1" الذي يقضي ببناء 3401 وحدة استيطانية بين القدس ومستوطنة "معاليه أدوميم"، لقطع التواصل الجغرافي بين شمالي الضفة وجنوبها، بما يشلّ حلم الدولة الفلسطينية.
بحسب صحيفة "معاريف"، تكبّد جيش الاحتلال أكثر من 900 قتيل وآلاف الجرحى، مع ارتفاع حالات الانتحار واضطرابات ما بعد الصدمة بين أكثر من عشرة آلاف جندي.
في المقابل، كانت "إسرائيل" نفسها تتهاوى اقتصاديًا ومعنويًا. فبحسب صحيفة "معاريف"، تكبّد جيش الاحتلال أكثر من 900 قتيل وآلاف الجرحى، مع ارتفاع حالات الانتحار واضطرابات ما بعد الصدمة بين أكثر من عشرة آلاف جندي.
كما أشارت صحيفة "كالكاليست" إلى أن كلفة الحرب تجاوزت 42 مليار دولار حتى نهاية 2024م، وقد تصل إلى 60 مليارًا بحلول 2025م، فيما بلغت نسبة العجز 5.2% من الناتج المحلي.
أوقفت شركات عالمية تعاملاتها مع تل أبيب، وألغت دول أوروبية صفقات تسليح بقيمة 600 مليون يورو، لتبدو "إسرائيل" عالقة في حربٍ بلا أفق ولا نصر.
باتجاه العدالة
تحت ضغط الجرائم اليومية، بدأ المجتمع الدولي يتململ. لم يعد ممكنًا السكوت عن صور المجاعة والموت الجماعي. أصدرت الأمم المتحدة في 22 أغسطس 2025م قرارًا رسميًا بإعلان قطاع غزة "منطقة منكوبة بالمجاعة"، في تحوّلٍ بدا كأنه اعترافٌ أخير بالكارثة.
يقول الدكتور صلاح عبدالعاطي، رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "حشد": "إن التوثيق الحقوقي لجرائم الاحتلال كان حجر الزاوية في كشف وجه إسرائيل الحقيقي، وفتح الباب لمساءلة قادتها أمام محكمة الجنايات الدولية".
وعلى الرغم من محاولات الضغط والتهديد الأمريكية والإسرائيلية، فإن مذكرات الاعتقال الصادرة بحق بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت كانت خطوة تاريخية باتجاه العدالة.
ذلك التحوّل انعكس على الموقف الدولي الأوسع، إذ اعترفت عشر دول جديدة بدولة فلسطين، لترتفع حصيلة الاعترافات إلى 147 دولة من أصل 193 عضوًا في الأمم المتحدة، بينها أربع من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (فرنسا، بريطانيا، روسيا، والصين)، ما يعيد رسم المشهد الدبلوماسي العالمي للقضية الفلسطينية، بعد عامين من الإبادة التي غيّرت وجه الشرق الأوسط بأسره.
وبالرغم من استمرار جولات التفاوض الجارية في شرم الشيخ بمشاركة وفود من الفصائل الفلسطينية والجانب الإسرائيلي برعاية مصرية–قطرية–أمريكية، إلا أن التوصل إلى اتفاق نهائي لوقف إطلاق النار لا يزال غير واضح المعالم، في ظل تمسّك كل طرف بشروطه؛ فإسرائيل تصر على بقاء قواتها داخل القطاع والسيطرة الأمنية الكاملة على المعابر والحدود، بينما ترفض "حماس" أي صيغة لا تضمن انسحابًا كاملاً ووقفًا دائمًا للحرب وبدء الإعمار.
هذا التباعد في المواقف، إلى جانب غياب الثقة المتراكمة بين الأطراف، يجعل من المفاوضات الحالية محاولة معقدة لكسب الوقت أكثر من كونها خطوة حقيقية نحو تسوية شاملة، رغم الضغوط الدولية المتزايدة لوضع حدٍّ للمأساة الإنسانية في غزة.
وفي ختام عامين من الحرب، لا يزال الغزيون يمشون فوق الركام، يبحثون في الرماد عن بقايا حياة. يرفع عبد القادر الراديو إلى أذنه، علّه يلتقط تردّدًا جديدًا يحمل خبرًا بوقف القتل، بينما تستمر الإبادة في بثّها المباشر للعالم، دون أن يُغيّر الصمت شيئًا سوى وجه الضحية.