شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاربعاء 17 سبتمبر 2025م13:35 بتوقيت القدس

غيابٌ تحوّل إلى رحيلٍ أبدي..

في خيمة الصحافيين "فراغٌ" لا يملؤه إلا "محمد الخالدي"!

07 سبتمبر 2025 - 12:59

شبكة نوى، فلسطينيات: غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"أربعون يومًا لم أره فيها، ذهب وتركنا نتعذب بفعل غيابه"، بهذه الكلمات المرتجفة بدأ والد الصحفي محمد الخالدي يروي حكاية الغياب التي مهدت لرحيل ابنه الأبدي.
قال لـ"نوى": "اضطررت للنزوح مع عائلتي إلى غرفة في بيت أحد الأقارب، لم يكن هناك متسع لمحمد بيننا، فاختار أن يبيت في خيمة الصحافيين داخل مستشفى الشفاء بحكم عمله".

محمد الذي لم يتوقف عن عمله الصحافي كان يملك قناة "خالدي اكتشف" على يوتيوب، ويعمل مستقلًا مع عدة مواقع ومنصات إعلامية منها "ساحات"، و"نوى– فلسطينيات"، و"دنيا الوطن". انشغاله أبعده عن زيارة أسرته، لكنه كان يحاول تعويضهم بمكالمات هاتفية يطمئن بها عليهم، وحين ينقصهم شيء كان يسارع لتأمينه وفق أبيه.

مرت أربعون يومًا من الغياب، حتى جاء العاشر من أغسطس، تلك الليلة التي قصفت فيها طائرة مسيّرة إسرائيلية خيمة الصحافيين داخل مستشفى الشفاء، فارتقى ستة منهم، بينهم محمد.
يقول والده: "كانت زوجتي وابنتي نائمتين، وأنا أتابع الأخبار عبر الراديو حين سمعت خبر استهداف الخيمة. جسمي بدأ يغلي والنار في قلبي تشتعل، كأن ماء نار انسكب على جسدي، أدركت أن محمدًا استشهد".

حاول أن يخفي قلقه، خرج من الغرفة بعيدًا عن زوجته، وأخذ يستمع للأسماء: ثلاثة صحافيين أعلن استشهادهم ولم يكن بينهم محمد، لكن قلب الأب لم يطمئن، فاتصل بأحد الأقارب، ليصله الخبر الصاعق: "محمد استشهد".

في سكون الليل، عاش الأب فاجعةً لا تُحتمل. صبر كي لا تستيقظ زوجته على صراخه فتُصدم وتبقى طريحة الفراش. انتظر حتى الفجر، صلّى معهما، ثم مهّد الخبر قائلًا إنه أصيب، لكن شعور الأم لا يخيب، ففهمت أن ابنها قد رحل.

مع الصباح، قصدت العائلة المستشفى على أمل أن يكون الخبر مجرد إشاعة، أن يخرج محمد إليهم بالضحكات والأحضان، لكن في غزة، الأمل غالبًا يَغتاله الاحتلال.
يقول والده: "وصلنا الشفاء، أبناء عمه كانوا يحملونه على الأكتاف، طلبتُ أن يضعوه أرضًا لأودّعه وأقبّله قبل أن يوارى الثرى".

كان المشهد قاسيًا، يصف الأب، ويكمل وهو يبكي: "رفعتُ الكفن عن وجهه، كان كالملاك النائم. تحسست رأسه فوجدت شظية اخترقته من الخلف، ورأيت الدماء تنزف من أحشائه التي مزقتها الشظايا. هذا أصعب مشهد في حياتي، لا أتمناه لإنسان".

في غزة، يتوقع الجميع الموت في أي لحظة، وعائلة محمد لم تكن استثناء. يقول والده: "نحن هنا شهداء على قيد الحياة، توقعت استشهاده لأن عمله محفوف بالمخاطر، لكن لم أتخيل أن يكون رحيله عنا بهذه السرعة".

محمد ابن مخيم جباليا، البار بوالديه، لم يتوانَ عن ترك عمله ليساعدهما في رحلات النزوح. كان حنونًا على الصغار والكبار، حتى القطط الجائعة في الشوارع، إذ كان يشتري لها الطعام وسط المجاعة.
يضيف والده بصوت يقطعه البكاء: "صورته وهو شهيد لا تفارق مخيلتي، أفتقد الأنس والبهجة التي كان يملأ بها البيت. كان مصدر الفرح، والآن كل شيء بعده اختفى".

"واصلوا التغطية، وافضحوا جرائم الاحتلال.. محمد رحل لكنكم موجودون، وصوت الحق سيبقى هو الأقوى".

يوجّه الأب رسالةً لزملاء ابنه: "واصلوا التغطية، وافضحوا جرائم الاحتلال.. محمد رحل لكنكم موجودون، وصوت الحق سيبقى هو الأقوى".

رحل محمد تاركًا وراءه مقعدًا فارغًا في خيمة الصحافيين، وصوتًا غاب عن البث لكنه بقي يتردّد في ذاكرة من أحبوه. في بيت العائلة بجباليا، لا تزال رائحته عالقة في الأركان، وصورته معلّقة في العيون لا تغيب. أما والده، الذي عاش أربعين يومًا على أمل اللقاء، فما زال يردّد بصوت مبحوح: "محمد لم يغب.. هو حاضر في القلب، وفي كل شهيد يكتب بدمه حكاية غزة".

كاريكاتـــــير