غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في الثالثة عشرة من عمره، كان مهند عيد يحلم بما يفوق قامته الصغيرة، أن يصبح لاعب كرة قدم تُصفّق له الجماهير، يرتدي قميص فريقه ويجوب به الشوارع.
أمام منزله في مخيم النصيرات كان يجمع رفاقه ليصنعوا ملعبًا من التراب ومرمى من الحجارة، يلعبون حفاة وتكفيهم الضحكات. لكن الطفل الذي عاش كرة القدم شغفًا، وجد نفسه في مواجهة قدر آخر لم يخطر له على بال.
قبل أيام قليلة من استشهاده، رافق شقيقته إلى مستشفى العودة لإجراء عملية جراحية. هناك طلبت منه والدته أن يعود سريعًا ومعه "خميرة"، لتتمكن شقيقاته من إعداد الخبز. حمل الطفل كيس الخميرة، ومضى في طريقه عائدًا، قبل أن تجرّه قدماه إلى حيث تجمّع الأطفال في الشارع وهم يركضون ويهتفون: "إنزال جوي.. إنزال جوي".
إحدى الحاويات لم تنفتح مظلتها، واندفعت بثقلها نحو الأرض بسرعة مروّعة. لحظة واحدة كانت كافية؛ سقط الصندوق فوق جسده النحيل ليطوي آخر صفحة من حياته القصيرة.
اقترب مهند من موقع "البراشوتات" التي ألقتها الطائرات، يتأمل المشهد بعيني طفل مندهش. غير أن إحدى الحاويات لم تنفتح مظلتها، واندفعت بثقلها نحو الأرض بسرعة مروّعة. كانت سرعة السقوط أكبر من قدرة قدميه على الهرب، فلم يجد أمامه سوى أن يرفع يديه الصغيرتين إلى السماء، كأنهما قادرتان على صد الحديد المتهاوي. لحظة واحدة كانت كافية؛ سقط الصندوق فوق جسده النحيل ليطوي آخر صفحة من حياته القصيرة.
"في آخر لحظاته رفع يديه للسماء، ظنًا أن يديه الصغيرتين ستنجيه، أو ربما يستطيع أن يرفع بهما المنطاد عند سقوطه"، هكذا وصف شهود عيان المشهد لعائلته.
لم يكن شقيقه الأكبر محمد يعلم أن الاتصال الذي تلقاه يحمل خبر استشهاد أخيه. هرع مسرعًا إلى مستشفى العودة، لكنه وصل متأخرًا؛ فقد كان مهند ارتَقَى. أما والده، الذي كان يظن أن ابنه ما زال برفقته في المستشفى، فقد عجز عن التصديق: "هذا ليس مهند.. ابني معي هنا"، قال مذهولًا، لكن الحقيقة أن طفله الذي خرج ليشتري الخميرة عاد إلى المستشفى جثمانًا.
لم يكن مهند الشهيد الأول في العائلة. شقيقه أحمد رحل قبل عام، حين كان يعمل في تكية للطعام، يستبدل ساعات عمله بوجبة يسد بها رمق عائلته، فاستهدفت الطائرات التكية وسقط أحمد شهيدًا. أما يحيى فحاول أن يقيم مشروعًا بسيطًا بفرن طيني، ذهب ليجمع الحطب من شمال النصيرات، فأصابته قذيفة، ولخطورة المكان لم تتمكن العائلة من انتشاله إلا بعد يومين، وكان قد فارق الحياة. وأمل شقيقته ارتقت في الأسبوع الأول من الحرب، حين قصفت الطائرات منزل عائلة سالم في حي الرمال. ومنذ ذلك الوقت لم تعرف عائلتها إن كانت قد دُفنت أم ما زالت تحت الركام، وإن دُفنت فأين يقع قبرها.
لم يبقَ في بيت عائلة عيد سوى اثنين من الأبناء وثلاث بنات، بعدما كان يعج بالحياة والأصوات. يقول شقيق مهند: "أحيانًا أستيقظ صباحًا فلا أجد أحدًا أقول له صباح الخير، بعد أن كان بيتنا ممتلئًا بأصوات العائلة".
كان مهند لاعبًا بالفطرة، احتفظت والدته بملابسه الرياضية وكرته الصغيرة لتبقى ذكرى، بينما قرر رفاقه ألا يلعبوا الكرة أمام بيتها كي لا يوقظوا في قلبها الجرح.
كان مهند لاعبًا بالفطرة، يدحرج الكرة في شوارع المخيم، يجمع حوله أصدقاءه، يخطط لمستقبله كنجوم الملاعب. احتفظت والدته بملابسه الرياضية وكرته الصغيرة لتبقى ذكرى، بينما قرر رفاقه ألا يلعبوا الكرة أمام بيتها كي لا يوقظوا في قلبها الجرح. حتى قطته الصغيرة، التي اعتادت أن تلازمه، ما زالت تجلس على سريره كل مساء كأنها تنتظر عودته.
ارتقى أحمد في سبيل وجبة، ويحيى بحثًا عن حطب، وأمل تحت الركام، ومهند وهو يحمل كيس خميرة ويلاحق مشهد الإنزال الجوي. ثلاثة أشقاء فقدوا حياتهم من أجل لقمة عيش، فيما تركوا خلفهم بيتًا يتيمًا من ضحكاتهم وصوتهم.