شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاربعاء 17 سبتمبر 2025م13:36 بتوقيت القدس

صدمة إعادة التغذية..

غزة.. حيث "الشبع" أقسى من "الجوع" أحيانًا!

25 اعسطس 2025 - 14:45

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

ليس الجوع وحده ما يهدد حياة الناجين من الحصار والمجاعة؛ فحتى الطعام حين يعود فجأة قد يحمل خطرًا خفيًا. بعد أشهر طويلة من غياب أصناف أساسية مثل السكر والزيوت والنشويات والبروتينات واللحوم المعلبة عن الأسواق، لم تتغذَّ أجساد الغزيين إلا على فتات الخبز الحاف إن وُجد، مع القليل من الأطعمة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

ومع عودة بعض هذه الأصناف بشكل مفاجئ، ولو بكميات محدودة وبأسعار مرتفعة جدًا، واجه الغزيون صدمة غذائية حقيقية، عُرفت طبيًا باسم "صدمة إعادة التغذية". وهي صدمة لا يلحظها الكثيرون، لكنها تتسلل إلى الجسد المنهك فجأة، فتربكه وتضعفه بدل أن تقويه.

تصفها الشهادات بأنها بداية فرح تنقلب إلى وجع. تحكي أم فلسطينية عن طفلتها غنَى ذات الأعوام الستة، حين تناولت ست مثلثات من الجبنة دفعة واحدة بعد الحرمان، فإذا بالمغص يشد عليها حتى البكاء. لم تملك الأم أن تمنعها، فقد كانت غنَى تعوّض حنينها للجبنة بلهفة طفولية جارفة، لكن جسدها لم يتحمل.

المسعف تامر الهندي يستعيد قصته مع السكر. كان يعوّض غياب وجباته في أثناء عمله الشاق بقطعة سينابون أو كوب شاي مُحلى، ثم انقطع السكر وغابت الحلويات. وفي زمن المجاعة، مرت به لحظات ضعف أغمي عليه فيها مرتين، لكنه واصل عمله كي لا يخذل الجرحى. ومع عودة السكر، لم يتمالك نفسه من النهم، قال وهو يبتسم بمرارة: "لا أصدق أنني أتناول الحلويات مجددًا، لكنها تعينني على مواصلة عملي".

محمد صالح، ابن الثالثة والثلاثين، لم يختلف حاله كثيرًا. أول وجبة له بعد المجاعة كانت علبة من لحم "إكسترا"، ابتلعها كاملة دفعة واحدة، فقضى ليلته في ألم شديد، وأمضى يومين متتابعين بين الصيدلية ومحاولات تهدئة معدته التي لم تعرف الدسم منذ شهور. وعبد الله، ذو السبعة عشر عامًا، تناول كمية كبيرة من الأرز مع السكر دفعة واحدة، فهاج عليه دوار وتشنجات عضلية، ولم يدرك أن جسده كان هشًّا لدرجة أن الشبع المفاجئ صار أقسى من الجوع.

أما سمر، أم لطفلين، فحاولت أن تعوض صغيريها سريعًا بما وجدت من الحلويات، فإذا بابنها يتقيأ وقد أصابه الغثيان، أما ابنتها فشكت من صداع وتوتر شديد. أدركت متأخرة أن العودة للطعام يجب أن تكون تدريجية، وإلا تحولت اللقمة إلى عبء.

محمود حسن، شيخ في الخامسة والستين، تناول اللحم المعلب والزيوت فجأة، فانتهى به الحال بآلام في المعدة وتورم في الأطراف واضطراب في ضربات القلب، ليُقرّ بصوت مثقل: "لم أكن مستعدًا جسديًا للتغير المفاجئ، يبدو أن التعافي لا بد أن يسير على مهل".

الاندفاع نحو الأكل بعد الحرمان الطويل قد يضغط على القلب والكبد، ويخلّ بتوازن المعادن الحيوية، تاركًا وراءه جسدًا ضعيفًا وأجهزة داخلية مرهقة لا تطيق الانتقال المفاجئ من الجوع إلى الشبع. ومع ذلك، فإن هذا "الخطر الخفي" لا يواجه الجميع؛ فالمجاعة لا تزال مستمرة، والأسعار المرتفعة تجعل الطعام رفاهية لا يملكها كثيرون.

"حين يعود الطعام فجأة، تحدث التغيرات الكيميائية الحادة: ارتفاع هرمون الإنسولين يسحب المعادن من الدم إلى الخلايا، فيفرغ الدم من عناصر حيوية ويصيب القلب والكبد والكلى بإنهاك مفاجئ".

خبير التغذية هشام حسونة يحذر من أن "صدمة إعادة التغذية" قد تكون قاتلة إذا لم تُدار بوعي طبي، موضحًا أن الجسم خلال المجاعة يستنزف مخزونه من الدهون والعضلات والبروتينات، ويخفض الأيض للحد الأدنى، فيما تُستنزف المعادن من الخلايا.

"لذلك، حين يعود الطعام فجأة، تحدث التغيرات الكيميائية الحادة: ارتفاع هرمون الإنسولين يسحب المعادن من الدم إلى الخلايا، فيفرغ الدم من عناصر حيوية ويصيب القلب والكبد والكلى بإنهاك مفاجئ".

الأعراض المبكرة واضحة: دوخة، ضعف، تشنجات عضلية، تورم الأطراف، ضربات قلب غير منتظمة، وقد تصل إلى الفشل القلبي. الفئات الأكثر هشاشة أمامها هم الأطفال، كبار السن، والمرضى المصابون بأمراض القلب أو الكلى أو السكري.

هرع الناس إلى أي شيء حلو بعد انقطاع طويل، فانكشفت أعراض صدمة إعادة التغذية لدى نحو 70% من المستهلكين. المغص، الصداع، الطعم المعدني في الفم، واضطراب المزاج.

أما الطريق الآمن للعودة إلى الطعام، كما يوضح حسونة، فيبدأ بوجبات صغيرة متكررة وسهلة الهضم: الشوربة، البطاطس، الأرز، الخبز. لا مكان في البداية للدهون الثقيلة أو الحلويات. الماء النظيف والمكملات المعدنية ضرورة، وقد يحتاج الناجي بين أسبوعين وستة أسابيع ليستعيد توازنه إذا سار على نهج تدريجي، بينما تستلزم الحالات الأشد متابعة طبية أطول.

يشرح حسونة أن "الالتهام الأعمى" ظهر بوضوح مع عودة السكر، حيث هرع الناس إلى أي شيء حلو بعد انقطاع طويل، فانكشفت أعراض صدمة إعادة التغذية لدى نحو 70% من المستهلكين. المغص، الصداع، الطعم المعدني في الفم، واضطراب المزاج كانت علامات متكررة. ونصح بالابتعاد في البداية عن المعلبات الغنية بالصوديوم مثل اللحوم والتونة، والبدء بأطعمة لطيفة على المعدة، مع إدخال الخضار والفواكه تدريجيًا لتعويض النقص.

"المجاعة قائمة، والغذاء المتنوع ما زال بعيدًا عن متناول غالبية الغزيين، حيث تبقى البروتينات الحمراء والبيضاء غائبة أو غالية، والمعلبات غير واضحة المصدر".

بهذا النهج يمكن تقليل الأعراض الشائعة مثل فقدان الشهية، الأرق، تساقط الشعر، والألم في المفاصل، ومنح الجسد فرصة ليستعيد توازنه دون إنهاك للقلب والكبد والكلى. لكن الأزمة لم تنتهِ بعد. فالمجاعة قائمة، والغذاء المتنوع ما زال بعيدًا عن متناول غالبية الغزيين، حيث تبقى البروتينات الحمراء والبيضاء غائبة أو غالية، والمعلبات غير واضحة المصدر، ما يجعل الخروج من دائرة المجاعة مؤجلاً لثلاثة إلى ستة أشهر على الأقل.

المجاعة في غزة لم تنتهِ بمجرد وصول الطعام. الناجون أنفسهم يحذرون من أن العودة المفاجئة للطعام قد تكون أخطر من الجوع ذاته. الصبر والوعي الغذائي هما السلاح الحقيقي اليوم، وكل لقمة يجب أن تُحسب بحذر، فالمعدة التي صبرت على الحرمان طويلًا تحتاج إلى صبر مماثل عند استعادة غذائها. الرسالة الأعمق التي يتركها الناجون وأطباؤهم هي أن الفرح بعودة الطعام لا يجب أن يعمينا عن الحذر، وأن النجاة الحقيقية لا تكون بالإطعام السريع، بل بحكمة إدخال الطعام تدريجيًا حتى لا يتحول الفرج المنتظر إلى خطر جديد.

كاريكاتـــــير