شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاربعاء 17 سبتمبر 2025م13:40 بتوقيت القدس

مُسحت الشوارع وطُمست معالم الحياة..

في الشجاعية تاهت الذاكرة: "أين بيتي؟"!

17 اعسطس 2025 - 11:16

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

لم يكن وليد الوادية يتوقع أن يتحول بحثه عن جثمان شقيقه إلى صدمة العمر. مضى بخطوات مثقلة نحو حي الشجاعية شرقي قطاع غزة بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي منه، لكنه حين وصل، باغته حجم الدمار، فانطفأت كل احتمالاته عند أول نظرة.

أربعة أشهر متواصلة من الاجتياح العسكري والعمليات البرية كانت كفيلة بأن تُبيد ملامح الحي بأكمله. البيوت لم يبق منها سوى الحطام، والشوارع جُرفت مع ركامها حتى تحولت إلى مساحة فارغة، لا أثر فيها لمعالم الحياة.

أمله الأخير في العثور على جثمان شقيقه تلاشى. حتى الشارع الذي كان يتوقع أن يجد فيه أثرًا، طحنته الجرافات ومسحته عن الوجود.

وقف إياد في شارع النزاز، المكان الذي شهد طفولته وشبابه، لكن عينيه خانتاه، لم يعرف بيته ولا حيه. "البيوت كلها مدمرة وعلى مد البصر دمار شامل"، قال وهو يتلفت يمينًا ويسارًا فلا يرى سوى أكوام من الركام والرمال الصفراء التي استخرجتها الجرافات من أعماق الأرض. وحين التفت شرقًا، رأى جبل تلة المنطار مكشوفًا من حيث لم يكن يراه قط، إذ كانت الدبابات الإسرائيلية متمركزة فوقه. عندها فقط أدرك أن المشهد يتجاوز حدود الخيال، فصرخ داخله: "هذه صدمة العمر".

أمله الأخير في العثور على جثمان شقيقه تلاشى. حتى الشارع الذي كان يتوقع أن يجد فيه أثرًا، طحنته الجرافات ومسحته عن الوجود. قال بصوت يغلبه الحزن: "أصبت بخيبة أمل قاتلة وحزن أكبر من أن يُحكى". لم يجد معالم للحي ولا لبيته، فكيف له أن يجد جسد شقيقه؟ سؤال ظل يطارده: "هل استشهد أم اعتقل؟ لا أعلم شيئًا عن مصيره".

لم يكن وليد وحده من اصطدم بهول ما رأى. الصحفي فايز قريقع حين دخل شارع المنصورة، أحب المناطق إلى قلبه، لم يجد سوى أكوام ركام وضعت عمدًا في منتصف الطرقات لإغلاقها. قال وهو مذهول: "الأمر أفظع وأبشع مما تخيلت. 95% من البيوت مُسحت وحرقت". ورغم انهياره، رفع هاتفه وبدأ يوثق ما تبقى من الحي. لماذا؟ أجاب ببساطة: "ليعرف العالم الأصم كيف دمر الاحتلال مسقط رأسنا وحوّله لكومة من الركام. لا يوجد أصعب من أن توثق دمار حارتك وأنت تنزف من الداخل".

لكن التوثيق لم يخلُ من الخطر. المدفعية الإسرائيلية ما زالت تقصف، والطائرات المسيّرة تلاحق كل حركة. يخبرنا قريقع أنه كان يصور فيديو يقارن فيه بين "قبل" و"بعد"، فإذا بقذيفة تسقط في محيط المكان، نجا منها بأعجوبة.  حبس دموعه قائلاً: "لا يوجد ما يدعو للحياة هنا. كل الذكريات مُسحت".

لم تستطع حتى أن تخبر والدها الثمانيني أن شقاء عمره اختفى. كانت تتنقل بقدميها المرتبكتين، حتى صرخ ابن جيرانهم: "إنتي واقفة على ركام بيتكم!".

وفي ركام شارع السكة، وقفت صابرين الحرازين عاجزة عن تعريف بيتها. لم تستطع حتى أن تخبر والدها الثمانيني أن شقاء عمره اختفى. كانت تتنقل بقدميها المرتبكتين بين الأنقاض بحثًا عن أثر، حتى صرخ عليها ابن جيرانهم: "وين رايحة؟ هيك واقفة على ركام بيتكم!". عندها فقط أدركت أن المكان الذي تظنه بيتها صار فراغًا.

تقول: "كنت أبحث عن الشجرة التي أمام بيتنا، فلم أجد شيئًا. حتى الركام لم يبقَ، تم تجريفه".

"ما في ركام لبيتنا لأبحث فيه عن أغراضي. كل الذكريات اختفت بلمح البصر".

ما أوجع قلبها أكثر أن لا شيء يمكن البحث فيه. لا جدار، لا حجر، لا متعلقات. "ما في ركام لبيتنا لأبحث فيه عن أغراضي. كل الذكريات اختفت بلمح البصر".

انسحب وعيها إلى أيام ما قبل الاجتياح البري، حيث كانت الحارة تعج بالحياة، والجيران يجتمعون عند العصر لشرب الشاي. اليوم، تمر في الشوارع التي حفظتها طوال سنوات فلا تعرفها. تقول بصوت يتهدج: "شعور مخيف جدًا أن تمشي في طرقات قضيت فيها سنين طويلة ولا تتعرف عليها".

وعندما سُئلت عن رسالتها للعالم، قالت ببساطة موجعة: "الشجاعية التي كان أهلها متمسكين بالحياة لم يعد لها أثر... أوقفوا هذا الجنون".

كاريكاتـــــير