غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"أشتهي الخُبزة"، تصدمك الحاجة إنعام أبو عودة (70 عامًا) بهذه العبارة البسيطة المؤلمة، بينما هي تصف معاناتها منذ بدء انتشار المجاعة في قطاع غزة، التي حرمتها الطعام وتسببت في تراجع حالتها الصحية، خصوصًا مع إصابتها بمرض القلب.
تجلس المسنة أبو عودة على فرشة قديمة داخل غرفةٍ صفية في أحد مخيمات النزوح غربي مدينة غزة، تضع يدها على خدّها تارة وأخرى على بطنها وهي تتلوى جوعًا، قائلةً: "كنت أزن 90 كيلو، فقدت من وزني 20 كيلو، أول 10 فقدتهم أثناء نزوحي جنوبي القطاع، والثانية خلال المجاعة".
أبو عودة واحدة من آلاف المسنين/ات الذين أجبرتهم ظروف حرب الإبادة الإسرائيلية منذ السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023م على النزوح، وعانوا مرارة فقدان الأدوية والمجاعة وتدهور صحتهم.
"حين تزوجت وأنا صغيرة، كان زوجي بلا عمل، لكن العائلة قالت (ما حد بموت من الجوع)، وظلت هذه الكلمة في رأسي، وبالفعل لم أسمع في حياتي أن أحدًا مات من الجوع سوى الآن".
تنهدت السيدة المكناة أم حاتم وهي تستذكر بيتها في منطقة "التوام" شمالي قطاع غزة: "سكناه قبل الحرب بمدة قصيرة بعدما بنيته بجهدي أنا وأبنائي الثلاثة. كان لدي شقة وحدي بالطابق الأول، فأنا أحب الخصوصية منذ وفاة زوجي قبل 6 سنوات، أهتم بصحتي وأواظب على الغذاء الصحي، أُكثر من الفواكه والخضار واللحوم، لكن الحرب قلبت حياتي".
منذ ثالث أيام الحرب نزحت أم حاتم إلى منزل قريبتها في رفح. تبعها أبناؤها الذين نزحوا إلى خيمة في مواصي المدينة الجنوبية، فانضمت إليهم. وسرعان ما أجبروا على النزوح من رفح في أيار/ مايو 2024م إلى خيمة في مواصي خانيونس. تبكي السيدة وتضيف: "حياتنا أنا وأبنائي انقلبت إلى طوابير: طوابير المياه وتكايا الطعام، وطابور الخبز وطوابير المساعدات. خرجت من بيتي لا أحمل سوى الملابس التي أرتديها، وبدأت بعدها سلسلة المعاناة".
في الخيمة عانت من الحر الشديد صيفًا، بينما طارت خيمتها شتاءً بفعل الرياح القوية. ومع تراجع التغذية بدأ الوهن ينخر جسدها الذي أعياه قلة الغذاء والدواء والتعب الدائم، خاصة وأنها لا تمتلك دخلًا ماديًا سوى راتب التقاعد الخاص بابنها حاتم (48 عامًا) المصاب بالسرطان، الذي يعيل عشرة أفراد، لكن الصدمة الإضافية حين عادت إلى شمال غزة وعلمت أن بيتها مدمر.
تنهدت وأكملت: "نزحنا إلى هذا المخيم في شباط/ فبراير 2025م، رغم أن الجهات الرسمية لم تعترف به. لكن على الأقل توفرت في البداية بعض التكيات والمساعدات، ومع عودة الحرب توقف كل شيء حتى دخلنا مرحلة المجاعة التي حرمتنا الطعام".
"اشتهيت الخبز، أمس جاءت حفيدتي فاطمة (3 سنوات) تبكي وتتلوى وهي تطلب خبزة صغيرة، ولم أجد لها. لا أعرف أحزن عليها أم على نفسي".
بالدموع تروي السيدة التي عايشت حروبًا سابقة وجولات من التصعيدات، لكن هذه المرة كانت أقساها على الإطلاق. قالت: "حين تزوجت وأنا صغيرة بعمر 17 عامًا، كان زوجي بلا عمل، لكن العائلة قالت (ما حد بموت من الجوع)، وظلت هذه الكلمة في رأسي بالفعل، لم أسمع في حياتي أن أحدًا مات من الجوع سوى الآن في مجاعتنا هذه".
وأشارت إلى أنها اشتهت العنب لما رأته مؤخرًا لكنها اكتشفت أن الوقية بـ(35) شيكلًا، في حين كانت نفس الكمية قبل الحرب تباع بحوالي 3 شواقل.
تغالبها الدموع وهي تواصل: "اشتهيت الخبز، أمس جاءت حفيدتي فاطمة (3 سنوات) تبكي وتتلوى وهي تطلب خبزة صغيرة، ولم أجد لها. لا أعرف أحزن عليها أم على نفسي.. في كثير من الأحيان أنتظر من يتبرع لي بخبزة صغيرة كي أتناول الدواء، وإن لم أجد أتناوله دون طعام".
"تعرضت للإغماء قبل يومين بسبب انخفاض مخزون السكر لدي، لا أتناول الطعام كما يجب ولا حتى السكر. وأنا مريضة بالقلب لا أتحمل هذا الحرمان، تصيبني رفة ثم يغمى عليّ".
تشير إلى بشكير على الكرسي البلاستيكي المقابل لها وتقول: "لدي اليوم رغيفان أحافظ عليهما. كما توفرت اليوم تكية توزع شوربة أرز مع الكوسة، وهذه سأتناولها طوال اليوم وأترك الخبز ليوم غد، فلا أعرف ماذا قد يحدث لاحقًا".
وتعدد السيدة الأشياء التي حرمت منها، وتتساءل بصدمة: "كيلو البندورة بـ120 شيكلًا (35$)، وكيلو السكر بـ600 ثم تراجع إلى 200، أما الدقيق فوصل إلى 150 ثم تراجع إلى 45، وهكذا باقي الأسعار.
وأردفت: "تعرضت للإغماء قبل يومين بسبب انخفاض مخزون السكر لدي، لا أتناول الطعام كما يجب ولا حتى السكر. وأنا مريضة بالقلب لا أتحمل هذا الحرمان، تصيبني رفة ثم يغمى عليّ. ابني كذلك تعرض للإغماء أكثر من مرة فهو مريض بالسرطان. ما نحن فيه ذل لم نتخيله".
"لا يمكن أن أصف لكم وضعي مع البعوض (..) أنا مريضة بالقلب وأحتاج تغذية، وفي ظل مجاعة لا ترحم صغيرًا ولا كبيرًا، نحن أكثر الناس تأثرًا ووهنًا".
وضعت منديلًا على أنفها عند حديثها عن الاختناق والسعال الشديد نتيجة إشعال الناس في المخيم للنار لطهي الطعام، معلبات بسيطة لا تزيد على كونها معلبات.
مثلها لا تتحمل هذا الاختناق، "ولا يمكن أن أصف لكم وضعي مع البعوض" تقول. ثم تتابع: "أنا مريضة بالقلب وأحتاج تغذية، وفي ظل مجاعة لا ترحم صغيرًا ولا كبيرًا، نحن أكثر الناس تأثرًا ووهنًا".
ختمت حديثها بتنهيدة طويلة، وأردفت بحرقة: "أتمنى أن ينتهي كل ما نعانيه، ويعيدوا لنا بيوتنا، وتضخ المواد الغذائية في السوق. فقد شارفنا على الموت جوعًا -حرفيًا".