غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
قبل لحظات فقط، كانت تضعهم واحدًا تلو الآخر في حضنها، تُمسّد على رؤوسهم الصغيرة وتراقب أنفاسهم المرتبكة. ثلاث بتلات لم يتجاوز عمرها الشهرين، ثم دوى الانفجار. هوى السقف. انقلب الكون. تحوّلت آلاء في رمشة عين من أمّ تعيش حلمًا انتظرته ستة عشر عامًا، إلى جثة حية تبحث عن صغارها تحت الركام.
"فجأة، صرختُ بأسمائهم، سوار، سارة، يحيى.. كنت أراهم حلمي، وها هم يختفون بين الغبار" تقول آلاء حسان، وهي تسند ظهرها المرهق إلى جدار خيمتها في أحد مخيمات النزوح غربي مدينة غزة.
"كان الوقت منتصف الليل، كل شيء تهشّم، اختفى أطفالي، ثم سمعت صوت سوار تصرخ، ثم صمتت. توقف العالم، لم أعد أسمع شيئًا. عرفتُ أنني فقدتهم".
حين قصفت طائرات الاحتلال منزلها في بئر النعجة، كانت تظن أن بقية الطوابق ستحميهم، فأقامت في الطابق الثاني لدى شقيق زوجها بدلًا من شقتها في الخامس. معها كان هناك نازحون آخرون، بينهم سيدة فرنسية وأطفالها!
ظنت لوهلة أن الجدران ستحمي من الموت، لكن في الثالث والعشرين من تشرين أول/ أكتوبر، انقض الليل على أجسادهم بصاروخين. تصف آلاء المشهد: "كان الوقت منتصف الليل، كل شيء تهشّم، اختفى أطفالي، ثم سمعت صوت سوار تصرخ، ثم صمتت. توقف العالم، لم أعد أسمع شيئًا. عرفتُ أنني فقدتهم".
وسط الركام، سمعت صوت زوجها يصرخ "أولادي"، فاستجمعت أنفاسها لترد عليه، فرفع عنها عمودًا إسمنتيًا، وإلى جانبها أخرج أول طفلة. "كانت سجى، ابنة سلفي، مطمورة بجواري، أما توأمها ضحى، فكان جسدها ممزقًا ووالدهما يحترق والدخان يتصاعد من جسده".
السيدة الفرنسية كانت تصرخ بأسماء أطفالها بصوتٍ مكسور وبعربية متعثرة.. لكن صرخة الأمهات لا تحتاج ترجمة.
السيدة الفرنسية استشهد اثنان من أبنائها ونجا الثالث. تمكّنت آلاء وزوجها من إخراج التوأم الثلاثي أحياء، لكن بجراحٍ صعبة. هرعوا بهم إلى المستشفى الأندونيسي، ثم إلى الشفاء. كان حال سارة الأسوأ، اختنقت ولم تعد تتحرك.
"ظن الأطباء أنها استشهدت"، تقول آلاء، وتصف كيف بدأ قلبها ينهار وهي ترى أجساد أطفالها الصغيرة بلا حراك.
مرت أيام ثقيلة. استُشهد سلفها، وبعد شهر لحقت به ابنته ضحى، ودفنتها أختها سجى في فناء المستشفى قبل أن يجبرها الاحتلال على النزوح. حين عادت، لم تجد القبر.
السيدة الفرنسية كانت تصرخ بأسماء أطفالها بصوتٍ مكسور وبعربية متعثرة.. لكن صرخة الأمهات لا تحتاج ترجمة.
نزحت العائلة إلى الشاطئ، لكنها لم تجد في النزوح طمأنينة. أُلقيت منشورات على الحي تطالب بالإخلاء، فهربوا إلى عيادة، ثم إلى مستشفى الشفاء. تقول آلاء: "كنت أريد فقط أن أبقى قريبة من مكان قد ينقذ صغاري. لكن المستشفى نفسه تعرض للاقتحام".
"أجبرني الجوع على تحضير الحليب بالمياه العادية، لكنهم استفرغوه مباشرة. المستشفى بدا وكأنه قاع القيامة، الجميع يصرخ، الجميع يبكي.. بكيت عليهم، فكرت أنهم لن يحتملوا ليلة أخرى".
حاصرت الدبابات المستشفى، أطلقت القذائف داخله، أطلق الجنود النار على الشبابيك، الجوع خنَق الأطفال، لا حليب، لا مياه معدنية.
تزيد: "أجبرني الجوع على تحضير الحليب بالمياه العادية، لكنهم استفرغوه مباشرة". المستشفى بدا وكأنه قاع القيامة، الجميع يصرخ، الجميع يبكي: "بكيت عليهم، فكرت أنهم لن يحتملوا ليلة أخرى."
فرّت آلاء إلى مستشفى اليمن السعيد، حيث الجوع هناك سبقها. لم تعد قادرة على الإرضاع، والجفاف بدأ يظهر على أجساد الصغار: "فطموا أنفسهم عن الرضاعة، وكلما نفد الحليب، كان الله يرسل لي من يساعدني.. بأعجوبة" تعقب.
أقدار آلاء الصعبة لم تتوقف إلى هنا. بعد خروج أختها إيمان من المستشفى، عادت إلى منزلهم مرةً أخرى. قصَفَ الاحتلال البيت، واستشهدت إيمان مع زوجها وأطفالها جميعًا.
"أعيش الرعب عليهم كل لحظة.. وأجد نفسي مدفونةً تحت ركام هذه الحرب كل يوم.. من جديد".
تبكي آلاء كلما تذكرت شقيقها محمد، الذي ساعد في إنقاذ صغارها من تحت الأنقاض، واستُشهد حين ذهب ليتفقد بيتهم خلال الهدنة في 2025م. تقطع حديثها وتتمتم: "كل حياتنا انتهت".
حولها يلعب الثلاثة.. التوائم الذين نجوا من كل هذا، وكأنهم شهادات حياة. لكن عيون آلاء لا تعرف الفرح، "المجاعة تعود من جديد، لا مياه تناسب أجسادهم، لا تغذية سليمة، والمياه المعدنية غير متوفرة أو باهظة. أنا أعيش الرعب عليهم كل لحظة.. وأجد نفسي مدفونةً تحت ركام هذه الحرب كل يوم.. من جديد".