غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في لحظة، انهمرت دموعها كالمطر ولم تتوقف. لقد أنهت السيدة ورود سعادة (35 عامًا) لتوّها شجارًا بين طفليها وبعض أطفال مخيم النزوح الذي تعيش فيه. "ينادون صغيري محمد بألقاب مسيئة كونه يعاني من عيبٍ خَلقي (الشفة الأرنبية)، إضافة إلى اعتلال في القلب".
تعيش ورود المكنّاة أم سامي داخل أحد مخيمات الإيواء غربي مدينة غزة، بعدما أُجبرت على النزوح للمرة (12) منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م.
"الحرب جاءت أصلًا لتقتل ما تبقى في قلبي من أمل. كنت فريسة للفقر ومرض طفلي ابن الأربع سنوات، والآن أنا فريسة لذلك كله بالإضافة لقهر الحرب والنزوح".
"الحرب جاءت أصلًا لتقتل ما تبقى في قلبي من أمل. كنت فريسة للفقر ومرض طفلي ابن الأربع سنوات، والآن أنا فريسة لذلك كله بالإضافة لقهر الحرب والنزوح" تقول لـ"نوى".
بدأت الحكاية، عندما رزق الله ورودًا بأصغر أطفالها محمد في مارس/ آذار 2021م، "وفي يوم ولادته فوجئت به مصابًا بالشفة الأرنبية، كان حملي فيه عاديًّا جدًا، لم أعانِ إلا من التهابات في الكلى وحصلت على علاج وريدي، ولا أعرف سبب ما حدث معه" تخبرنا.
لم تستسلم ورود التي كانت تسكن في بيت حانون شمالي القطاع لواقع طفلها، فقد جابت المستشفيات بحثًا عن علاجٍ لحالته. المشهد كما تصفه كان مخيفًا، "طفل بلا شفة ولا أسنان ولا سقف حلق، كله مفتوح لدرجة أجبرتني على تغطية وجهه خشية من نظرات الناس، التي تنوعت بين التنمر والشفقة"، حتى بلغ الطفل عامه الأول وبدأ بسحب الغطاء عن وجهه كلما وضعته.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى -على حد تعبيرها- اكتشفت إصابة طفلها بضيقٍ في الشريان الأورطي الذي يضخ الدم للجسم، ما جعل الطفل يتعرض للاختناق بين الحين والآخر.
تقول: "كنت تائهة بين البحث عن علاج لطفلي، ولأبيه الذي يعاني من الصرع، ويحتاج إلى علاجٍ لا يتوفر إلا في الصيدليات، فالمتوفر لدى وزارة الصحة لا يناسب حالته، اقترضت من إخوتي وكل من أستطيع الاقتراض منه لمواصلة علاج طفلي" مردفة بالقول: "طبيب واحد كان بوسعه تخفيف حدة الوضع عبر عملية جراحية لكن المبلغ كبير، استعطفتُه أن يرأف بحالة طفلي، وهنا رق قلب شخص ميسور يعاني طفله من ذات المشكلة، وقال سأدفع مقابل عملية الطفلين".
ظلّ محمد بحاجة إلى المزيد من العمليات لتحسين وضع الفم والأسنان كونه لا يستطيع الأكل ولا الكلام، فأمه حتى الآن تضطر لهرس الطعام له، وبينما كانت تسعى للحصول على تحويلة طبية لعلاج فمه وقلبه، صدمتها الحرب على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر لتنقلب كل الموازين تمامًا.. توقفت إجراءات التحويلة التي كانت باتجاه المستشفيات الإسرائيلية في الداخل المحتل.
تقول: "نزحت بأطفالي وزوجي من بيت حانون شمالًا إلى غزة ثم إلى جباليا، ثم النصر والنصيرات في وسط القطاع، إلى رفح وخانيونس في الجنوب.. كل نزوح كان يكلفني مبلغًا كبيرًا من المال ما بين نقل أشيائي أو فقدان المستلزمات بسبب النزوح المفاجئ، مثلما حدث عندما استهدف الاحتلال منطقة الإقليمي بالقصف وخرجت بزوجي وأطفالي دون أن أحمل شيئًا".
تكمل: "عيشة الخيام قاسية علينا فما بالك على طفل مريض لا يتحمل جسده البرد ولا الحر، تعرض محمد عدت مرات للتشنج ليلًا، وكنت أسرع به إلى المستشفى بينما طائرات الاستطلاع والطائرات الحربية تحلق فوق رأسي. لم أستطع توفير ما يلزمه من طعام فهو مريض وبحاجة إلى مكملات غذائية غير متوفرة حتى الآن".
ورود هي المعيلة الوحيدة لعائلتها، فحتى زوجها غير قادر على العمل بسبب مرضه، خاصة وأنه تم تركيب بلاتين له بسبب سقوطه عن سلالم إثر نوبة صرع مفاجئة.
تكمل: "عدت إلى بيت حانون مع توقيع الهدنة في يناير 2025م. وجدت منزلي مهدمًا فعشت في خيمة وعدت للنزوح مجددًا مع استئناف الاحتلال للحرب على قطاع غزة، وجئت لأعيش هنا في هذا المخيم".
تشير ورود إلى صاجٍ من الحديد وهي تبكي، ففي ظل انقطاع الدقيق بقطاع غزة، جرّبت أن تصنع خبزًا من الأرز، عجنته وحاولت صنع أقراص لكنه التصق بالصاج وتلف كله، ولم تفلح محاولتها في توفير الخبز لصغارها.
تقول: "أعيش على ما توفره إدارة المخيم في التكية، ليس لديّ أي مصدر دخل، زوجي مريض بالصرع، ويحتاج إلى علاج ديباكين 500، وما تسلمه المؤسسات الرسمية لا يناسبه، أما محمد فهو بحاجة إلى مكمل غذائي أيضًا غير متوفر، ما زلت أحاول إطعامه عبر هرس الطعام له، كان السيريلاك يناسبه، ولكن ليس لدي قدرة على توفير ما يناسبه من أطعمة".
وفي ظل ما تعانيه الأم من حزنٍ على طفلها، يحزنها أيضًا وضع طفلتها مريم (12 عامًا) التي خرجت منذ الصباح لتقف في طابور تكية الطعام، وبرغم أن موعد الظهر اقترب إلا أن أطفال ورود لم يفطروا بعد، "والتكية لا توفر إلا الغداء.. الذي عادة ما يكون عدسًا".
تكمل: "أطفالي سامي ويامن يتشاجران بشكل مستمر مع أطفال المخيم بسبب تنمرهم على محمد، كل ما يجري يجرح مشاعري، وحتى محمد رغم صغر سنه فهو يعي وضعه ويسأل بشكل مستمر عن شكله وفمه وسقف حلقه وأنفه.. لماذا يبدو شكلهم هكذا، ويحزن ويبكي بسبب التنمر عليه".
تختم: "كل ما أتمناه أن يحظى صغيري محمد بفرصة لعلاجه كي يصبح كما بقية الأطفال".