غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"لم يتبقَّ له سواء، ولم يعد لي سواه.. تحمّلتُ مبكرًا مسؤولية بيت وطفل نجا وحده من مجزرة.. لا أعرف ماذا تخبئ لي الأيام بعد، لكنني أتمنى أن لا يبقى أحدنا وحيدًا في النهاية".
بهذه الكلمات، بدأت الشابة بيسان سالم (20 عامًا) الحديث عن ابن عمها الطفل محمد سالم (8 سنوات)، الذي نجا -وحده- من مجزرة راحت ضحيتها عائلته كلها، ودارت به الدنيا ليصبح في حضانة ابنة عمه، التي نجت من مجزرةٍ ثانية وتعاني مثله الفقد، فوجدت فيه تعويضًا لروحها الجريحة.
حزام ناري أدى لاستشهاد أكثر من 70 مواطنًا، بينهم كل من كان في منزل عائلة سالم، "مجموع من استشهدوا منهم يومها 27 فردًا!
في تفاصيل الحكاية، ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في 7 أكتوبر 2023م، وإجبار الاحتلال لسكّان شمالي قطاع غزة على النزوح إلى الجنوب، رفضت عائلة سالم التي كانت تسكن في بلدة جباليا شمالي القطاع النزوح، وظلّوا في بيوتهم.
تقول بيسان: "أنا وأسرتي (الأب والأم والإخوة) انتقلنا قبل الحرب بشهرٍ إلى منزلٍ مستقل في بناية خارج بيت العائلة. مع بدء الحرب نزحت عائلة عمتي (9 أفراد) إلى بيت العائلة الذي يتواجد فيه أعمامي وأبناؤهم، وعائلة خالي وزوجته وأطفاله الثلاثة، ويوم 2 نوفمبر 2023م، تعرّض المربع السكني الذي تسكنه العائلة للقصف، واستشهدوا جميعًا".
حزام ناري أدى لاستشهاد أكثر من 70 مواطنًا، بينهم كل من كان في منزل عائلة سالم، "مجموع من استشهدوا يومها 27 فردًا! علمنا بالخبر الساعة 12 ونصف، ولم نتمكن من التحرك حتى ذهبنا إلى المستشفى إلا صباحًا"، تقول بيسان.
"في المستشفى علمنا أن محمد نجا وحيدًا من المجزرة، ولكن إصابته صعبة، فقد طار جسده الصغير مسافة كبيرة إلى منزلٍ في منطقتهم".
تتنهّد الشابة بحزنٍ وهي تجلس أمام خيمةٍ تقيم فيها حاليًا في مخيم للنازحين غربي مدينة غزة، ثم تكمل: "في المستشفى علمنا أن محمد نجا وحيدًا من المجزرة، ولكن إصابته كانت صعبة، فقد طار جسده الصغير مسافة كبيرة إلى منزلٍ في منطقتهم"، مشيرةً إلى أن الأطباء ركّبوا "البلاتين" في قدميه، في الوقت الذي عجز فيه رجال الدفاع المدني عن انتشال جثامين الشهداء من تحت الركام، "إلا بعض الجثث الممزقة التي لم نعرفها لمن".
أسبوعان على المجزرة التي أودت بحياة 27 فردًا، لم تبرد نار عائلة سالم، حتى تعرّض منزل عائلة بيسان للقصف في مجزرة جديدة! تقول: "حدث ذلك صباحًا، كانت الساعة 6:30، استيقظت لأجد المكان حولي مدمرًا، لم أسمع شيئًا، فقط وجدت والدي يحاول إنقاذ إخوتي، فأنا لم أكن مصابة، ذهبت للمستشفى بسرعة، وحين رأيت أخي محمد (20 عامًا) عرفت أنه لن يعيش. إصابته كانت صعبة، وبالفعل استشهد بعد ساعة".
اشتكت أمها من ألمٍ في القلب، وبعد ساعتين استشهدت، كانت تعاني نزيفًا داخليًا استشهدت بسببه، وبعدها بساعة لحقت بها ابنتها ملك.
وتتابع: "استشهدت خالتي وزوجها وأبناؤها أيضًا، باستثناء ابنة وابنًا كانا نازحين عندنا، لكن صدمتي كبيرة كانت بأمي (46 عامًا) وأخواتي ملك (24 عامًا)، ولمى (13 عامًا)".
لم تكن إصابة أم بيسان وشقيقتيها صعبة، وهذا منح الشابة الأمل بنجاتهن، اشتكت أمها من ألمٍ في القلب، وبعد ساعتين استشهدت، "كان الوضع كارثيًا في المستشفيات والإمكانات الطبية منهارة، المصابون ملقون على الأرض ولا أحد يستطيع فعل شيء، أمها كانت تعاني نزيفًا داخليًا استشهدت بسببه، وبعدها بساعة لحقت بها ابنتها ملك.
وتكمل: "تم تحويل محمد ومعه شقيقتي لمى إلى جنوبي قطاع غزة، وهناك استشهدت لمى، وظلّ محمد برعاية عمي الذي كان في جنوبي القطاع، حتى عاد إلى مدينة غزة واحتضنته هنا".
أما محمد الذي يحب أن يناديه كل من بالمخيم بلقب (أبو عامر)، فهو شاهدٌ على جريمة القصف الأولى. يحكي لـ"نوى": "بحب ينادوني أبو عامر على اسم بابا"، مردفًا بشكل عفوي: "بدي أصير مهندس لما أكبر علشان أبني بيوت غزة مرة ثانية.. أنا شاطر بالمدرسة".
ورغم أن محمد لا يعي كثيرًا ما يجري حوله، لكنه يتذكّر الليلة الأخيرة التي قضاها في منزلهم: "كانت ماما نداء قاعدة في الصالون مع خالتي بيتكملوا (خالته وزوجة عمه في ذات الوقت)، وأنا كنت ألعب مع محمد (9 سنوات) ابن عمي سامر، وبعدين نمنا في نفس الغرفة، لكن محمد استشهد وضليت أنا".
يكمل: "كلهم استشهدوا، وضليت لحالي مع بيسان، عايش في الخيمة مش في دارنا".
"حصلت على معدّل 97% في الثانوية العامة عام 2023م قبل الحرب، وسجلت في تخصص تجارة وإدارة مكاتب، ولكن مع اندلاع الحرب، انقطعتُ عن التعليم، ولم أتمكن من المتابعة لأن هاتفي النقال ليس حديثًا".
تتدخل بيسان لتوضح: "احتضنته، لأنني مع شعوري بالفقد وحاجتي لأمي وأخواتي، أصبحت أكثر قدرة على الشعور به، أعوض هذا الشعور بوجوده وأتحمله، هو أغلب الوقت يلعب، أريد أن أراه مهندسًا حين يكبر".
لكن الشابة التي يضيع نهارها في العمل المنزلي الشاقّ الذي فرضته عليها ظروف الحرب، ما بين تنظيف الخيمة التي تؤويها إلى جانب محمد ووالدها وشقيقها الناجي معها، والغسل اليدوي، ومتابعة شؤون محمد، يشغلها بشدّة انقطاعها القسري عن التعليم.
تقول: "حصلت على معدّل 97% في الثانوية العامة عام 2023م قبل الحرب، وسجلت في تخصص تجارة وإدارة مكاتب، ولكن مع اندلاع الحرب، انقطعتُ عن التعليم، ولم أتمكن من المتابعة لأن هاتفي النقال ليس حديثًا، ولا يدعم ما يمكن أن يساعدني في الدراسة عن بعد، كما أنني بحاجة إلى لاب توب والأسعار حاليًا خيالية لا قدرة لنا عليها، فانقطعت رغمًا عني مع أنني متفوقة".
ولا تزال الشابة تحلم بانتهاء الحرب؛ كي تتمكن من متابعة علاج محمد الذي يحتاج للسفر إلى خارج غزة، كما تطمح لأن تواصل تعليمها، وأن تشعر بالأمان يحيط قلبها، وكل من بقي لها من أحبة.